يقف الرسام البلجيكي ديريك ايلن وسط معرضه الذي استلهم كل لوحاته من فيديوات ناشطين معارضين في سورية، ويفكر بصوت عال كيف أن المعرض لم يكن ليوجد لو استسلم لشكّه وتردده حول أحقية تناول هذا الموضوع، فكل ما يجمعه بسورية ذكريات طيبة من زيارة قام بها قبل عشر سنوات. فبعد انطلاقة «الربيع العربي»، وجد ايلن نفسه مدفوعاً بتلك الذكريات باحثاً عن أخبار سورية، فتابع أفلام الفيديو التي يبثها الناشطون السوريون. لكن هذه الأفلام لم تعد بالنسبة إليه مجرد «نشرات أخبار»، ويقول: «المَشاهد لم تبارح تفكيري، فبدأت أنجز رسوماً حولها». وعلى رغم أن صور الفيديو لم تكن متقنة ولا صافية، فقد شغلت بال ايلن بسبب «غموضها»، ويشرح: «صور مهتزة، وتعرف تماماً ما يحدث، لكنك تشعر بأنك وسط الناس». وبمرور الوقت، وجد نفسه أمام مفترق طرق «وترددت كثيراً». فمن جهة حملت إليه فيديوات الناشطين طاقة إلهام كبيرة، لكنها من جهة أخرى آتية من بلد وحدث لا ينتمي إليهما فعلياً. غير أن هذا الشك تبدد بعدما عاد من سفر، ونظر إلى لوحة كان رسمها لطفل سوري بين القتلى المتظاهرين في أحد الفيديوات. في تلك اللحظة قرّر: «اللوحة خطفت أنفاسي، ولم أستطع النظر إليها مجدداً. عندي ثلاثة أطفال، وبدأت أفكر بمعاناة الأطفال هناك... عندها عرفت أني يجب أن أكمل هذه الرسوم». هذه اللوحة تتوسط الآن صالة المعرض الذي يحمل عنوان «سورية كما تُرى في يوتيوب»، وفي جوارها لوحة التقطت صورة قريبة لطفلة جريحة تنظر إلى الكاميرا. إنها لحظات مختلفة، اختار الرسام تثبيتها من الأفلام، وبعضها يبدو انطباعياً وتعبيرياً، فهناك مناظر لطبيعة صامتة أو جانب من شارع، أو مجرد كتلة أبنية وطبيعة وخلفها دخان يتصاعد. حاول الفنان «نقل الأحاسيس الموجودة في تلك الأفلام»، وفي المعرض ما يحيل مباشرة إلى الحدث السوري، كحال لوحة تلتقط لحظة هجوم مجموعة من عناصر حفظ النظام بهراواتهم على متظاهر، أو لوحة أخرى لجمع من المتظاهرين في قرية سورية، يرفعون أيديهم باتجاه ضوء قوي مسلّط عليهم من منصة احتفال. أما «قوة الإلهام» والغموض الذي حملته تلك الأفلام إلى ايلن، فلعلها مرتبطة بوجود الكاميرا، ما يعني أن أمراً سيقع، ويهتز الكادر ويتلفّت (المصوّر المجهول) باحثاً عن ذلك الشيء، أو أن الكاميرا تحضر في قلب حدث ما مصحوبة بصوت لهاث. وقد يسقط المصوّر، وعبر عدسته يظهر حوله جرحى في أحد الشوارع، وهو ما التقطته لوحة حرص الفنان على إبقاء زاويتها مائلة. والمعرض أقيم بجهود شخصية من ايلن الذي استأجر صالة عرض حديثة هي عبارة عن حظيرة ضخمة كانت تستخدم لتخزين البضائع في منطقة «اندرليخت» في بروكسيل، وبعد إعادة ترميمها صارت صالة عرض مميزة يقسمها إلى ضفتين مجرى ماء ضيق يخترق وسطها. وفي جانب من الصالة، كان الرسام وصديقته يوضبان نسخاً من اللوحات، وبعضها طُبع بطاقات بريدية، ليبيعاها للزوار، فيما يصدح عزف على العود للعراقي، السوري المولد، خيام اللامي الذي أدى عزفاً حياً في افتتاح المعرض الأسبوع الماضي. سعى ايلن إلى رفع الإيرادات ما أمكن. فإضافة إلى تغطية الكلفة، سيتبرع بريع المعرض لمساعدة اللاجئين السوريين عبر الصليب الأحمر الدولي. نصف اللوحات بيع بعد أربعة أيام من الافتتاح، والأسعار تراوحت بين ألف وأربعة آلاف يورو. وتحدث الفنان للصحافة البلجيكية عن المرحلة الأولى لرصده أفلام الناشطين، عندما سادت التظاهرات السلمية، وقال إنه شاهد «فيديوات مليئة بالأمل»، ولم يمانع متابعة «مئة فيديو تباعاً». لكن مع تحوّل الحراك السوري صراعاً مسلحاً، صارت الفيديوات قاسية. وهو لا يضع نفسه خارج السياق السياسي، ويعبّر عن استغرابه من العالم الذي «يبقى متفرجاً» ولا يتدخل لوقف القتل وما يقوم به النظام السوري. ويرى إن لفت اهتمام الناس إلى الصراع ومعاناة المدنيين، من خلال المعرض، يستحق بذل الجهد.