قدم الفنان السوري جورج بيلوني أكثر من ثلاثين لوحة في معرضه المستمر في صالة "آرت هاوس" بدمشق حتى التاسع من يناير القادم، وهذه اللوحات تنتظم ضمن الخط الذي اختاره الفنان لنفسه، وهو البحث في الذاكرة الحية للفن السوري القديم، وفي الحقب التي تمتد ثلاثة آلاف عام قبل ميلاد المسيح، عبر الأختام والمخطوطات، وعبر التأثير غير المباشر للون التراب المعتق في لواء الإسكندرون وأنطاكيا. ويؤكد الفنان البيلوني بذلك على مقولته الأثيرة بأحقية أن يكون للفن هوية مميزة، حتى يمكن القول إن هذه اللوحة، أو المنحوتة، أو القصيدة، سورية، حتى قبل أن يُعرف اسم مبدعها. ويضرب البيلوني ممثلاً بالإنتاج الفني العراقي المعاصر الذي يحمل هذه الخصوصية، ويتمنى أن تلتحق الفنون السورية، والعربية عموماً، بهذه الميزة التي يحملها الفن العراقي. ونستطيع، كمشاهدين، أن نلتقط أوليات اهتمام الفنان بدمج الفكرة مع التقنية المستخدمة، حين تتقدم إحداهما على الأخرى مرة، أو حين تتسايران في مرات، ففي اللوحات المنفذة بالقماش وألوان الإكريليك نشاهد لوحة تصوير مكتملة العناصر، باستخدامه عناصر الغرافيك بشكل تقليدي متقن، مع لمسات خاصة تعتمد على الحذف من اللوحة المكتملة، للتوصل إلى تكوين بؤرة بصرية يقود فيها الفنان المشاهد إلى نقطة معينة من اللوحة يريد إظهارها بشكل بارز؛ أما في لوحات الكولاج، عندما يستخدم البيلوني صور الأختام أو الوثائق التاريخية والأدبية، ومثالها المقامة السابعة من مقامات الحريري، فيساير التكنيك الفكرة، بواقعية ودون حاجة إلى أدنى جهد من المشاهد لتفسير اللوحة، حيث تطغى العناصر الجمالية للون البني الضارب إلى النحاسي، وحيث تقدم الرسوم والزخارف الشارحة بالرسم، والمرافقة لمقامة الحريري، هويتها الخاصة المنتمية إلى سياقها الزمني، فالغاية هنا جمالية خالصة تضاف بالتجاور إلى اللوحات التي تتقدم فيها الفكرة نسبياً على التقنية. ونستطيع أن نقرأ في مسيرة الفنان البيلوني ما كتبه الراحل فاتح المدرس، من قوله "أخذ جورج رؤاه من الأرض، وإنسان الأرض، التي ترعرع في روعتها. إنه من "لواء الإسكندرون" إلا أنها لم تُعطه إلا ذلك الجدار الذي نقشت عليه آلاف السنين أحداث الشعر السوري الذي يحوم بين المرتفعات الشاهقة ونعاس البحر المترامي حتى تخوم الجزر اليونانية. درّس نفسه فن الرسم بألوان هي سحنة الزمن، وبريشة تتحرك على هوى الرؤى الذاتية في حرية الأسير من جنة غادرها آدم".