في الطريق من مدريد الى توليدو كنت أرى من نافذة القطار أشجار الزيتون تنتظم في صف طويل. وقد تعرف ان الزيتون نضج واستوى وأن قطافه في تشرين الأول (أكتوبر). وتتذكر ذلك البيت من قصيدة لمحمود درويش «لو يذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعاً». تصل الى محطة توليدو وكل شيء يردّك الى الشرق فيها: التصميم والنقوش والزخرفة. لون الشمس. الوجوه والحرارة والالفة. تستقبلك توليدو بالقرميد وتمدّ بينك وبينها سراعاً بساط الودّ وعبق التاريخ. فهي كانت عاصمة منطقة كاستيا لامانشا وتقع على هضبة تحيط بها أودية عميقة ويُزنّرها نهر تاجو (التاج) من ثلاث جهات. وشهرة توليدو لا تكتفي بأنها إحدى عواصم الامبراطورية الاسبانية، بل كمكان لتعايش الثقافات الاسلامية والمسيحية واليهودية وعرفت في القرون الوسطى باسم «مدينة التسامح». فتحت (توليدو) طليطلة على يد طارق بن زياد في العام 712، ووصفها الحميري في كتابه «الروض المعطار في عجائب الأقطار» بأنها «على ضفة النهر الكبير وقلّما يرى مثلها إتقاناً وشماخة بنيان وهي عالية الذرى حسنة البقعة». وعرفت توليدو بين القرن الخامس والسادس عشر نحو ثلاثين من المجامع الكنسية. وتشتهر بصناعة السيوف والسكاكين ولا يزال حتى اليوم تقليد النقش على الفضة والذهب سائداً، وفي المدينة محلّ مشهور يحمل اسم «اداماسكينو» والمصدر هو النفش الدمشقي. فلا عجب في ان يقول أحمد شوقي شعراً «لولا دمشق لما كانت طليطلة ولا زهت ببني العباس بغدان». ومن معالم المدينة كاتدرائية توليدو وفيها مكتبة تضم ملايين المخطوطات من القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وفي المدينة مسجد «باب المردوم»، وهو من أقدم معالم طليطلة وبني في العام 999، وحوّل المسجد الى كنيسة باسم نور المسيح. ندخل الى توليدو من باب القنطرة او بالاسبانية purerta de la Kantara ونسمع هدير النهر يروي الزمن ويدور حول المدينة ويسقي بساتينها محاذياً السور كأنه سوار. تدهشك في توليدو الأحياء والحواري والنوافذ تتقارب وينجذب بعضها الى بعض كأنك في قرية «بياع الخواتم» في فيلم الرحبانيين المشهور. تستسلم للمكان وتدرك أن أجمل التاريخ كان بالأمس لا غداً... وأن الحضارات كالشرفات تتقارب وتتراكم وتتنوع، ولا تتصادم. تحية الى صباح زوين في تلك الحواري يستقبلنا المترجم لويس ميغيل كنيادا، مدير مدرسة المترجمين في ندوة - تحية بمناسبة صدور كتاب الشاعرة الراحلة صباح زوين «كلما أنت وكلما انحنيت على أحرفك» بالإسبانية، فكأننا على ضفة قريبة من ضفتنا. روى لنا كنيادا ان مدرسة المترجمين في طليطلة شهدت ورشات عمل للمؤلفين ومترجميهم، عقدت بين عامي 1995 و 1999، وضمن المؤلفين العرب عبدالرحمن منيف وأدونيس ومحمود درويش وإدوار الخراط ورشيد الضعيف وخالد زياده وعبدالقادر الجنابي وعبدالمجيد بن جلون ورؤوف مسعد وعالية ممدوح وغيرهم. وشكلت هذه اللقاءات اختباراً نوعياً في الصداقة والترجمة. وكانت للمدرسة مهمة تأطير ذاكرة المستقبل. روى لنا كنيادا انّ عبدالرحمن منيف مشى في تلك الأزقة شارحاً لمترجميه كتابه «سيرة مدينة» بأن المدينة تعيش في القلب. وأنه نفخ في غليونه ونظر الى سماء صافية زرقاء وقال: «غداً ستمطر». وبالفعل انهمر المطر مدراراً في اليوم التالي. سبقت اسبانيالبنان في تقديم التحية الى الشاعرة الراحلة صباح زوين بمناسبة صدور كتابها «كلما أنت وكلما انحنيت على أحرفك» بالاسبانية. والكتاب ترجمته صباح زوين وراجعه كنيادا، وصدر ضمن سلسلة المصدر – الهدف، وبرنامج المأمون الخاص بلبنان. وعلى قول هنري عويس، عميد كلية اللغات في الجامعة اليسوعية: «وها إننا جميعاً نلبّي الدعوة ولكنها تخلفت عن الموعد. لم يسبقها القطار ولم تفوت الطائرة بل أرسلت من يمثلها وينوب عنها وهو هذا المنتج الفريد بلغتين وقد اختارت له صورة اعتمرت فيها قبعة كأنها على سفر الى الشمس والضوء والنور». كانت الكلمة الاولى رسالة للبروفسور سليم دكاش، رئيس الجامعة اليسوعية، قال فيها: «حاولت ان تخترع لغة خاصة بها. لغة خاصة بهذا المنحى الجديد الذي سلكه الشعراء المحدثون سعياً منهم الى عربية غير مقولبة، محررة من سلاسل التكرار، وأغلال التقليد والرغو والزبد». وأضاف: «عند هذا المساء في مدرسة طليطلة تجتمعون تحية لصباح زوين ولذكراها وليكن الفرح بالكلمة وبالنقاء طابع لقائكم والمخفف من ألم الرحيل». ثم كانت كلمة لويس ميغيل كنيادا الذي أثنى على ترجمة الكتاب وتذكر النقاشات الطويلة التي دارت بينه وبين صباح زوين حول كلمة او معنى. ورأى أن الترجمة هي اختبار المعنى في بنى جديدة. ثم كانت كلمة ناشر الكتاب، سليمان بختي: «نحن وأنتم أبناء حضارة واحدة وزمان الوصل هو هو زمن التواصل والتفاعل واللقاء...». وأضاف: «حفرت صباح زوين كل شيء في الكلمة التي تعددت، ولكن ما نتذكره هو غصن كثيف النور مر في حياتنا، في حركتنا الشعرية والثقافية ولعب لعبة الصدق الخطرة على حافة الطيبة والانفعال. وقالت بالشعر ما يصعب قوله في الحياة. وأنها أغنت البلاغة ببلاغة ذاتية. واذا ما انكسرت قيثارة الالم فصوت الغناء سيستمر متصاعداً ما دامت القصيدة سراً من أسرار الانسان». وكانت الكلمة الأخيرة للباحثة والأكاديمية في الجامعة اليسوعية رنا الحكيم بكداش التي اعتبرت فيها ان صباح زوين لبثت موزعة بين رغبتين: رغبة الاغتسال بالضوء الساطع، وروعة الانكفاء الى برودة الظل. واختتمت: «جالت معنا صباح زوين في نزهة بين دفاتر حياتها، تركتنا نرتاح في الباحة، وانكفأت بهدوء الى داخل صرحها، الى داخل الفيء والظلال». وقرأ الممثل اللبناني المقيم في إسبانيا زياد شكرون قصائد بالعربية والاسبانية مع صور ظلال للشاعرة، بطريقة مؤثرة وحميمة، رسم فيها صورة لصباح زوين لا تشبه فيها أحداً بل تشبه نفسها. وأنهى بصورة لصباح تتحدى الموت. فتنة المدينة كنا نبحث في طليطلة عن بوابات تقود الى داخلها لتكشف الفتنة والسحر والغموض والأسرار. ولعلّ الشعر كان الباب الأكبر والأبهى. وفي تجوالنا في الحواري الضيقة للمدينة بلا تهيب وبغبطة عامرة، استمرّ الحديث مع لويس ميغيل كنيادا الذي بادرني: «نريد ان نسمع الصوت الآتي من الضفة الأخرى». وبرأيه ان هناك أحداثاً أثّرت في واقع الأدب العربي وترجمته الى الاسبانية. حرب حزيران (يونيو) 1967 والقضية الفلسطينية وفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل 1988، وهو صُنّف في اسبانيا للمرة الأولى كأفضل الكتّاب المعاصرين في العالم. إضافة إلى أنّ فوز كاتبين عربيين بجائزة غونكور الفرنسية، وهما المغربي طاهر بن جلون واللبناني أمين معلوف، ساهم في تعوّد الأسواق الاوروبية على إبداعات كتّاب عرب، أضف إلى ذلك وجود جاليات عربية متزايدة في الدول الاوروبية. ولكن يبقى السؤال: هل استطاع الأدب العربي المترجم التحرّر من ربقة الخطيئة والصور الجاهزة وهذا أمر يتعلق بالطرفين، أي أوروبا والعرب. يرى كنيادا ان الترجمة هي اختبار وهاجس، وهو يروي عن شاعر عماني لا يقرأ الشعر في لغته الاصلية، بل يقرأ ترجمة الشعر لأنه يضعه هناك على حافة اللغة. ويرى سلفادور بينيا مرتين من جامعة ملغا أنّ الترجمة تظلّ تحمل سرّها وتحدياتها وآفاقها، وهو ينكب منذ خمس سنوات على ترجمة «الف ليلة وليلة». وأنه يأسى كلما انهى صفحة منها. وحين تسأله عن السر؟ يجيب: «ليس في الخيال بل في الواقع، ليس بالرمز بل في الأثر، ليس في الشوق بل في الحكايات... ليس في ما يروي بل في ما يتحدى خيال الانسان. السرّ انه الكتاب الموسوعة في العالم». وأكدّ اخيراً ان الترجمة «نشاط له أهمية وأولوية في حضارتنا، وأننا نعيش وسط الترجمات لمعارفنا وشطحات خيالنا وأفكارنا وأدياننا. نتغذى على نصوص مترجمة». تعجب وأنت تمشي بين الآثار العربية في طليطلة في محافظة الاسبان، حكومة وشعباً، على تلك الآثار والاهتمام بها وصيانتها وترميمها وتجميلها. وتقارن بين ما تراه وبين إهمالنا الفظيع لتراثنا العمراني الأثري في العالم العربي. تمشي وتردد مع محيي الدين ابن عربي: «انما هذه الأسفار كلها قناطر وجسور نعبر اليها الى ذواتنا وأنفسنا». تترك طليطلة كما يترك المرء قمراً أصفر بأمان الشوق فوق تلّة القصر. الشوق الذي لا يعرفه سوى عصفور القرميد. قمر يعايش الحنين والتذكار وعسف الأقدار والتاريخ.