خبّأ أمين الباشا حبه كله لبيروت، خبأ عشقه كله وحنينه وأشواقه كي يبوح بها دفعة واحدة في كتاب فني أنيق (240 صفحة من القطع الكبير) صدر عن «دار نلسن»، متضمناً مجموعة كبيرة من الرسوم والمائيات المؤرخة ما بين عامي 1953 - 2009، فضلاً عن النصوص الشعرية والأدبية والمقالات والشهادات الموقعة بأقلام أعلام الأدب والشعر والقصة والتاريخ. قدمت للفنان ابنته ماهيتا الباشا اورياتا في كلمة تناولت مقتطفات من سيرته بدءاً من طفولته المشغوفة بالفن والموسيقى انتقالاً الى دراسته في باريس ومن ثم زواجه واستقراره في بيروت ومحطات بارزة من انجازاته التي تركت بصماتها الكبيرة على ذاكرة جيل من الفنانين. قد لا يعثر القارئ على سياق ترابطي أو منهجي - إخراجي ينظم ذاكرة الباشا الغزيرة والوسيعة ما بين قديم وجديد ورسم وتلوين، مما يعطي الكتاب طابع العمل التجميعي وكأنه على غفلة وبلا حسبان تندس بين صفحاته النصوص الأدبية التي تعكس مختلف المقاربات عن بيروت الأنثى والعشق والحلم. وقد يتساءل الضليع بالكتب الفنية حول قياسات الأعمال المنشورة، التي كثيراً ما تستقل كامل صفحات الكتاب، ما يجعل العين تغرق في ثراءٍ جمالي شبيه بالطرب البصري فيغمر الناظر شعورٌ لذيذٌ بقوة الضوء وحرارة التناغمات اللونية المشبعة بقوة ربما هي أعلى من نبرات ألوان المائية نفسها. غير أن الرسوم والمائيات تحمل تواريخها وأسماء الأمكنة التي انبثق منها الرسم، ما يسمح بتجوالٍ وتصفحٍ وتنقلات بين دفتي الكتاب، اقرب ما يكون الى النزهة بين حدائق لونية مسكوبة بالحب، لكأنها سجل حافل بالذكريات... ذكريات مائية رقيقة يتخللها الهواء وبياض النور الشفاف وزرقة البحر وأزهار الحقول والشموس والعصافير. انها الذاكرة المقطوفة من حياة المدينة وحياة الفنان معاً. وإن كانت بيروت قد وهبته نفسها فقد رسمها في أبهى حللها كأناشيد ألوان ممزوجة بأصوات وروائح وعطور من أمجاد بواباتها المنقوشة بالزخارف وقناطرها المظللة بغبار النسيان. رسمها حكاية شعبية تنبعث من أحيائها القديمة ومجتمعاتها البسيطة والمتواضعة، حيث الحوانيت وعربات الباعة المتجولين وجلبة الشارع وزينة الأعياد وقامات النساء بفساتينهن المزركشة بالبنفسج والياسمين ونبات الشرفات ومرايا الأثاث العتيق للجدات. غاص في شوارعها ودلف الى بيوتها وفتح نوافذ شرفاتها الزجاجية كي ينهال الضوء الى الدواخل الحميمة حتى أعماقها. تجرعها حباً من الوريد الى الوريد. لأجلها كتب أجمل القصائد اللونية وظل أسير جمالها. لأمين الباشا بيروته كما لكل مثقف لبناني وعربي بيروته الخاصة. غير أن بيروت هي ملهمة الباشا ومرآة حياته وذكرياته الغالية ومحط نزهاته هي العيد والحرش وأرجوحة الطفولة ومرتعها المطمئن، ومنزل الأحبة واللقاءات العائلية في أحضان الجنائن. أمين الباشا من شجرة عائلة عريقة عرفت بولعها بالفن والموسيقى. منها كانت بدايته المتصاعدة مع سلالم النوتات ومنشور اللون مع كل مغيب وشروق، دروس أخذ يتلقنها بجوار ثلاث شخصيات بارزة في حياته هي شخصية والده المثقف وخاله العازف والموسيقي خليل مكنيه وشقيقه توفيق الباشا. كان الفن قدره منذ البداية وبيروت ملهمته الأولى والدائمة، كتبها حتى أضحت شبيهة بيوميات فنان عينه تراقب وقلبه يخفق ويده الماهرة تقتنص وتسجل وتقترح وتجتهد وتنتقي وتختزل في تسجيلية وصفية قل نظيرها في الفن اللبناني. ليست المدينة بحراً وناساً وامكنة ورواداً مقاهيَ واحياء شعبية فحسب، بل عطرٌ يتضوع بين الرياحين والأفياء وصور من خزائن الماضي والحاضر. ليست خريفاً وربيعاً بل حدائق ونساء وشرفات وأصص ازهار. انها العمر كله الآتي من ذهب الأيام الماضية، بل من كنز الطفولة الضائعة وشباب الموهبة وينابيع الالهامات الجامحة ومن دفء الأمكنة وحنينها وامتداداً الى نضج الكهولة. هي مدينة يسعى دوماً الى التقاطها فتظل غامضة الملامح، عصية على النسيان فيعاود السعي اليها، وتتوالد الرؤى في كل يوم جديد وتتشعب كما تتشعب الأمكنة والتواريخ في دروب العمر. ثمة مناظر تشهد على التغيرات الكبرى التي أصابت المدينة في صميمها، من جراء الحروب ونتائجها على البشر والحجر وكذلك من انعكاس التوسع العمراني العشوائي على مجريات الحياة وانعطافاتها البعيدة من جماليات الزمن الماضي. بين المائيات القليلة التي تستذكر الحرب والتي تعود الى عام 1982، تلتقط الريشة الحطام من خراب الأسواق ودمار دور السينما، وتنغمس في اعمدة الدخان الأسود المنبعث من ابينة بيروت التي تحترق أثناء القصف. ليس صحيحاً ان الباشا لم يسجل مظاهر الحرب، بل ثمة رسوم كثيرة نشرها في المجلات والصحف تشهد على ظروف مجتمعاتها وسلوكياتهم في أحلك أيام الحرب وفوضى الشارع وظلمات الليالي المضاءة بالشموع. ولكن محترف الباشا في جان دارك كان يعج وقتئذٍ بأزرق البحر ونساء العصافير وطاولات الطبيعة الصامتة حيث الثمار والفاكهة وأصص الأزهار، تتبدى كحقائق لونية وموضوعات كرست لا ريب إرادة الحياة المنتصرة على الموت. في أحد اعماله ترتسم في عمق المشهد البيروتي نقوش بواباتها القديمة، والمخازن والمحلات التجارية والحسناوات العابرات والشعارات النافرة على الجدران والصور المعلقة في الواجهات. في حال من الاختناق تبدو المدينة وقد غزاها الاسمنت والزحام. كما تشهد اللوحة على هاجس البقاء حين يثبت الباشا اجساد المارة ويرسم الكراسي الفارغة في حر الظهيرة بانتظار ان يملأ اللون المكان ويحل محل الفراغ، لكأن العابر في هنيهات الحياة يثبته الباشا في الفن كي يمنحه حياة جديدة. ولطالما آمن الباشا في اوج مراحل الصعاب بأن عاصمته ليست مقراً للكآبة بل راهن على عودتها واجهة بحرية لأغاني العاشقين وحدائق ومثقفين ومتذوقين وموئلاً لفرح الحياة وبهجتها. ميزة امين الباشا كفنان انه بيروتي، مطبوع بلهجة أهلها موهوب منها ومن خصائصها ومتشرب عاداتها وتقاليدها. وهو المفطور على الدعابة الممزوجة بالسخرية وحب الحياة والفرح والانفتاح الثقافي ومعرفة الناس. تبرز في اعمال الباشا في الخمسينات ساحة البرج وسكة الترامواي حين كانت البيوت منثورة على الجنبات مكللة بقرميدها الأحمر تكتنفها عربات الخيل أما السيارات فهي قليلة في ساحات شبه خالية. منذ ذلك الحين بدأت شخصيات رواد المقاهي الشعبية لا سيما لاعبي الورق بالظهور. لكأن المقاهي كانت المعلم الأول لاختبارات رسام آمن بالفن على انه لغة للجمال متصلة بالناس والطبيعة وأشياء الحياة. من مقهى «لاباليت» الى «قهوة القزاز» و «الكيت كات» و «مقهى الحاج داوود» حيث لعب الورق والطاولة والنرجيلة، ثم يطالعنا مقهى «الهورس شو» المتأنق وعرائش مقهى «الروضة» ومقاهي الحمرا. تتنوع الشخصيات والنماذج والكاراكتيرات والأمزجة. كما يأخذنا الباشا من عين المريسة الى الروشة وكورنيش البحر والمنارة والاوزاعي، يهبط بنا الى اعماق الحقول الربيعية والبيوت الغافية على الشواطئ حيث المراكب الراسية. يجول بنا في الأسواق التي اندثر بعضها من الوجود، من سوق الذهب الى باب ادريس وسوق سرسق وأياس وجادة الفرنسيين، وساحة البرج والجميزة، كي يحط بنا الرحال في شارع الحمرا تحت المطر. المطر الذي يمحو كل الأشكال وتضيع المعالم وملامح الوجوه المبللة بالنعاس وتبعثر الخطى. تسيل الألوان ثم تصحو على أحاديث نسوة يتحلقن حول قهوة الصباح في حديقة البيت. نساء عجائز، وفتيات يافعات يفتحن نوافذ الحب على مصراعيها. تتراءى بقع الظلال على البلاط ويتعانق أحمر الشفاه مع نبات الحديقة الغناء حيث نور الشمس في النهار يحيل كل الأشياء الى بياضها الأول، بياض ما قبل اللون. بيروت أمين الباشا ليست مدينة فحسب بل هي توأم روح وعشق دفين هي الوعي الأول على قيمة الأشياء واحتفالية الطبيعة وروعة الحياة اليومية مهما بدت هامشية وعادية. هي سيرة حب طويلة دونها نسائم على صفحة قلبه وحكايات شعبية سطورها ناس يرتجلون قاماتهم على الورق.