لعل الكتاب المنشورة ترجمته قبل أن ينصرم العام الماضي، والذي يحمل عنوان هذا المقال، يعد وعن حق أحد أهم وأفضل الكتب التي صدرت هذا العام، ذلك أن التراث الروحي للإنسانية يدخلنا إلي صميم كل دين من الأديان الكبرى التي يستعرضها هذا الكتاب من وجهة نظر علاقة كل منها بالآخر واستقلاله عن غيره أيضاً. الكتاب (الصادر عن دار الساقي في نسخته العربية وضع أصلاً باللغة الإنكليزية)، وكان هدفه محاولة جديدة لدراسة مادة الأديان في إطار ما يعرف ب «حوار الأديان وتآلفها» وبخاصة في جامعات الولاياتالمتحدة وأوروبا، وقد فاز الكتاب بأول جائزة علمية تمنحها الهيئة العالمية لتفاهم الأديان المعروفة بمحفل التفاهم الموجودة في نيويورك، إذ اعتبرت الكتاب أبرز إسهام علمي في حقل الدراسات الخاصة بموضوع حوار الأديان وتآلفها. من وراء هذا العمل الموسوعي البديع؟ بداية الدكتور سهيل بشروئي الأستاذ في مركز أبحاث التراث في جامعة ماريلاند في الولاياتالمتحدة، وأحد الرواد الأوائل للحوار والتوافق بين الأديان على حد وصف المترجم القدير محمد غنيم الذي وقف وراء صدور الكتاب بلغة الضاد، بالشراكة مع الدكتور مرداد مسعودي الأستاذ المساعد في دائرة هندسة الطب الأحيائي بجامعة كارنيغي. وفق تعريف أليون فان دايك رئيسة مجلس محفل التفاهم، فالكتاب رحلة سردية لمعرفة «توق الإنسان إلى الارتقاء والسمو»، ونظرة متعمقة باهرة في سعي الإنسان بحثاً عن الحقيقة المطلقة سواء من طريق تنوع الشكل ووحدة الشوق المتطلع إلي الربانية. أما صاحب الكتاب الدكتور بشروئي:» فيخبرنا أن كتاب التراث الروحي للجنس البشري(The Spiritual Heritage of the Human Race) جاء محصلة جهد مشروع طويل كان القصد منه تطوير منهاج الدراسات الدينية وتحديثه ليتلاءم مع عالم اليوم وينسجم مع حوار التوافق بين الأديان. مفتاح فهم الكتاب يوجد في مقدمته الطويلة التي تتجاوز الخمسين صفحة من القطع الكبير، والتي يستهلها صاحبها بتساؤل: ما هو الدين؟ والجواب الأولي من قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي «عيد الدهر»: الدين لله، من شاء الاله هدى لكل نفس هوى في الدين داعيها ما كان مختلف الأديان داعية إلى اختلاف البرايا أو تعاديها الكتب والرسل والأديان قاطبة خزائن الحكمة الكبرى لواعيها محبة الله أصل في مراشدها وخشية الله أس في مبانيها ويلفت صاحب المقدمة إلى أن الاهتمام بالمقدس كان صفة ملازمة للحياة البشرية منذ بداية التاريخ المدون ما يوحي بقوة بأن الروحانية أساسية بالنسبة للطبيعة الإنسانية. وقد عبر عن هذه النقطة المؤرخ الديني ولفريد كانتول سميث بقوله: «... هناك بعد سام في الحياة البشرية، وعلى قدر ما يستطيعه تصوري، كان ذاك موجوداً دائماً منذ العصر الحجري». كيف نظر علماء الاجتماع لفكرة الدين؟ الجواب توصل إليه إميل دوركهايم الذي يعتبره العديدون مؤسس علم الاجتماع الحديث وفيه أن الدين يلد «كل ما هو أساس للمجتمع» بما في ذلك الاجتهادات الكبرى كالعلوم. هل كان للدين وظيفة في حياة الإنسان منذ ظهوره على سطح البسيطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟. هذا بدوره يقره صاحب العمل، وعنده أن الدين قد أدى وظيفة أساسية في حياة بني الإنسان، فالبرهان عليه قائم في استمرار وكلية وجوده من عصور ما قبل التاريخ وحتى اليوم. وعلى رغم أن التحري العلمي الاجتماعي ربما يساعدنا في الاكتشاف أن الدين يؤدي وظيفة أساسية، فإننا لا نفهم تماماً ماهية تلك الوظيفة إلا من خلال وجهة نظر دينيه، وبتعبير آخر، أن أهداف الدين وأغراضه يجب أن لا تقترن بالتأثيرات الاجتماعية والنظرات الدينية إلى العالم والممارسات الدينية. في المقدمة ذاتها وقفة فلسفية عميقة مع البعد المشترك في التراث الروحي للإنسانية تتمحور حول فكرة الحقيقة النهائية المطلقة، ومفادها بأنه من الصفات البارزة للنظرة الدينية أو التقليدية للعالم الاعتقاد بأن السلطة المطلقة والخير يجتمعان في حقيقة نهائية سامية تتخطى العالم الدنيوي المادي، ولكنها لا تستثنيه أو تستبعده بالضرورة. ويستند هذا المفهوم إلى ما أوضحه العالم جون هيك (John Hick) من أن «كل تراث من تقاليد الأديان الكبرى يؤكد أنه بالإضافة إلى تجربة حياتنا الإنسانية العادية مع العالم الاجتماعي والطبيعي، هناك حقيقة أكبر وأسمى غير محدودة خارج نطاقنا أو في ذواتنا بالنسبة لما أو لمن يكون فيه أسمى خيرنا». والحقيقة النهائية والنفيس النهائي هما واحد، وأن يهب الإنسان نفسه طائعاً وكلياً لهذا الوحيد «هو خلاصنا النهائي وتحررنا وتنورنا وتمامنا». هل يعني ذلك أن هناك قاسماً مشتركا في النفس البشرية ينزع من تلقاء ذاته إلى الألوهية والوحدانية، ويبحث عن العلة الفاعلة في سياق تسلسل العلل الفاعلة التي يخبرنا بها الفيلسوف والمعلم الكاثوليكي الأشهر توما الأكويني في بحثه المتعلق بالوجود الضروري والحتمي للذات الإلهية؟. هذا حقيقي، فعلاوة على ما تقدم فإن كل معتقد تقليدي يعي أن الحقيقة الإلهية تتخطى مدى مداركنا الدنيوية، فهي لا نهائية أبدية لا حدود لاغتنائها، تفوق مجال إدراكنا وخبرتنا المحدودة. يقودنا البحث في مشترك التراث الروحي للإنسانية إلى أن الدين هو السبيل إلى الحياة الروحية، غير أن الأمر لا بد وأن يمر من خلال أبعاد الدين السبعة التي يحدثنا عنها العالم الإسكتلندي ننيان سمارت Ninaian smart وهي البعد الخرافي الأسطوري، والبعد العقائدي الفلسفي، والبعد الطقسي أو العملي، والبعد الخلقي أو القانوني، والبعد المادي والفني والبعد التجريبي، وبعد الحركة المنظمة أو الاجتماعية. ما الذي تمثله هذه الأبعاد السبعة في حياة الإنسان اليومية؟ إنها تمثل «جوانب مختلفة لنظام واحد متكامل». وبناء على ذلك، فإن الدين أسلوب شامل للحياة يضم «الشخص الكلي واستخدام العقل والعاطفة والإرادة، وذلك طبقاً لتعريف عالم اللاهوت الألماني الأميركي يواكيم واك. من هذا المفهوم يخلص المرء إلى أن أي بعد منفرد لأي دين ليس غاية بحد ذاته. والصلاح التام يمكن تعريفه بأنه الحياة الربانية، أي الهدف النهائي لمبادئ الخلاص كما تصوغها الأديان، كالتنور والانعتاق والخلاص والتحرر والإدراك. والنظرة إلى الدين كطريق أو سبيل متأصلة في جوهر كل دين من الأديان. هل يمكن أن يكون هناك دين من دون التزام بشرعة انضباط روحي وحقيقة مطلقة واحدة نهائية سرمدية؟ يضعنا الكتاب أمام ما أشار إليه العالم، جيمس دورلنغر من أهمية العلاقة بين الانضباط الروحاني والحقيقة المطلقة على الوجه التالي: يوجد الدين في سعي الإنسان المنظم للعيش حياة ربانية، حياة يتمتع فيها دوماً بحالة دائمة الهناء من الوعي بالحقيقة المطلقة، الحقيقة التي تم استيعابها بشكل مختلف من الأديان المختلفة وحتى في الأديان نفسها، ولكنها تلك التي تسمو بالأشياء وترتقي بها كما تبدو أصلاً، وتحرره عندما يدركها من كل صفوف المعاناة. هل دراسة الدين أو الأديان أمر باتت تحتمه مقدرات زمن العولمة؟ يستعين المؤلف برؤية للمهاتما غاندي يذهب فيها إلى القول: «أنا أعتقد أن واجب كل مثقف، رجلاً كان أو أمرآة، أن يقرأ كتب العالم المقدسة بود وتعاطف. وإذا نحن احترمنا أديان الآخرين، كما نريد منهم أن يحترموا ديننا فإن دراسة ودودة لديانات العالم واجب مقدس». والثابت أن اعتبار التثقف في الدين وفق رؤية المؤلف تزداد الحاجة إليه في هذا العصر الذي تتقارب فيه شعوب العالم المتنوعة، ولذا يؤكد العالم ننيان سمارت أنه «لابد لفهم تاريخ البشرية والحياة الإنسانية من فهم الدين، ويجب على المرء في العالم المعاصر أن يفهم عقائد الشعوب ودياناتها كي يستوعب معنى الحياة كما يرى من منظورات تختلف اختلافاً كبيراً أحياناً عن منظورنا». هل من فائدة لهذا المنهج؟ بالتأكيد نعم، فقد أدت الدراسة العلمية للدين المقارن التي تقدم نظرة إلى أديان العالم لا تقوم على التعصب أو الانحياز الديني، وكما أن هذه الدراسة كانت أصلاً من نتاج بحث متقص يتسم بروح الإنسانية الغربية، فإنها لم تتفوق على أصولها الغربية وتتجاوزها، ولكنها نبهت الكثيرين إلى ثراء وتنوع المعتقدات الروحانية للعالم. وفي السعي لابتكار المفاهيم التي يمكن استخدامها لوصف ديانات مختلفة كل الاختلاف. ومما لا شك فيه أن للدين دوراً بالغاً في نمو وسيادة بل وانتشار إما مفهوم الحروب أو مبادئ السلام، لهذا فإن المقدمة تتناول كذلك فكرة حركة الحوار بين الأديان وتآلفها في إطار سعي الدين لبلوغ سبل السلام. لماذا الدين والسلام طرفا معادلة؟ لأنه تاريخياً ساد ظلام وتشويش بفعل أولئك الذين استولوا على رموز الدين وسيطروا على خطابه لأغراض شخصية أنانية. فأولئك الذين أكدوا أنهم هم وحدهم المالكون الوحيدون للحقيقة، هم الذين تقع عليهم المسؤولية الجسيمة للارتباك والفوضى اللذين يشكلان آفة الفساد للعالم. غير أنه وإن كان الدين قد أسيء استعماله عبر التاريخ واستغل كقوة حشد معبئة في الصراعات السياسية العرقية، فإن إسهام الدين في سبيل إقامة السلام وإحلاله ظل مغموطاً حقه ومقللاً من شأنه زمناً طويلاً. وقال الكاردينال فرانسيس أرينزي الذي كان ذات مرة رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان في الفاتيكان «.. لم أقابل طيلة سبعة عشر عاماً من اشتغالي بالترويج لحوار الأديان شخصاً من أتباع أي دين لا يعتبر دينه مؤيداً للسلام». ما الذي يحتويه التراث الروحي للأديان من قيم لخدمة الإنسان؟ بما أن كل دين من الأديان ينطوي على نظرة عالمية تروج للسلام، فكلها يملك طاقة القيام بدور إيجابي في سبيل قضية السلام. ولذا فإنه عندما تتطلب الأخطار التي تواجه العالم، كالإرهاب الدولي وأسلحة الدمار الشامل وزيادة عدد السكان والفقر والأمراض وانحطاط البيئة وفساد المعايير الخلقية، عملاً منسقاً، يتحتم على أديان العالم أن تعمل لضمان مستقبل سلمي دائم للإنسانية جمعاء. وقد أشار عالم اللاهوت الشهير هانز كوننغ إلى أن «السلام بين الأديان شرط مسبق للسلام بين الدول»، فالنظرة الروحانية المؤسسة على الفضيلة إلى العالم والمتأصلة في كل الأديان، إلى جانب اهتمام الأديان المشترك بالتعاطف والخدمة والسلام، توفران أساساً مكيناً يمكن للأديان أن تقيم تعاونها عليه بدلاً من التنافس على سبيل العمل من أجل السلام. ما هو المشترك الإنساني الذي يمثل الآن ضرورة ملحة في ظل مجتمعات متعددة الثقافات؟ يقرر الكاتب أنه الحوار، ومن دونه لا يمكن التغلب على الجهل والتحيز، ولن يتحقق التفاهم والتبادل. هل لأتباع الأديان مكان في هذا الحوار؟ حكماً أن الدين، أي دين وكل دين، هو حجر الزاوية في إدارة هذا الحوار، ففي طريق البحث عن الحقيقة السرمدية، تبقى الأديان مشاعل عبر الدروب، وبالحوار تزداد الاستنارة، وتصيب الخطى موضعها، لكن ينبغي دوماً أن نتذكر أن نجاح أي حوار بين أتباع الأديان إنما يعتمد على تبني جو من الاحترام الحقيقي المتبادل وهو سلوك يتخطى مجرد التسامح. * كاتب مصري.