أتساءل ونحن نشهد على مسرح المشهد المجتمعي المحلي الفكري، مما نقرأه في الصحف وما نسمعه ونشاهده في محطات الإذاعة والتلفزيون، وما نعرفه مما لا يكتب أو يذاع، عن التناقض الصارخ بين ما يصبو إليه مجتمعنا برؤيته السياسية العالمية من تواصل وتعارف وتوافق وتوق للعيش العالمي الواحد المشترك، وما يجب أن يعكسه الواقع من رفض للاحترابات الفكرية والنزاعات والتوترات. في الكلمة الأخيرة التي وجهها ملك الإنسانية إلى «منتدى تحالف الحضارات» الثالث في ريو دي جانيرو، «طرح مبادرته الداعية إلى الحوار بين أتباع الديانات والمعتقدات جاءت ل «إزالة سوء الفهم، ونبذ مظاهر الخلاف والعداء والكراهية، والتركيز على مجالات التعاون الرحبة من دون المساس بأصول المعتقد»، من خلال جهود حثيثة لتأسيس مركز عالمي للحوار يضم ممثلين عن جميع الأديان الأساسية للعمل بكل استقلالية، بمعزل عن أي تدخلات سياسية». بين كلمة ملك ورؤية عالمية يجب أن يقف المجتمع بعيداً عن احترابات فكرية تسبب الفراق والخصام حتى لا يشكل التدين مشكلة للمجتمع؟ ويكون سبباً للانقسام بدلاً من ان يكون عنصراً مساعداً لتحقيق الوحدة؟ وما دور الدين في بناء السلم الاجتماعي وليس تدمير صيغ العيش المشترك؟ فالتدين الحقيقي ليس من مهامه تأجيج الصراعات الثقافية والتعددية الواحدة. الحركة الدينية أعتقد أنها الإشكالية الأساس التي آلت بنا إلى هذه الحال وجعلتنا نتساءل «هل يشكل التدين مشكلة للمجتمع؟» وكأنه قد انبعث فينا شيء من توجس من الدين وبالتالي لابد أن يكون هناك في المقال من يتوجس على الدين وهذا ما لا ينبغي! ففي الحقيقة المطلقة أن الإسلام يترفع عمن يستخدمون الدين وقوداً في إزكاء الصراعات والاحترابات، بأفعالهم وردات أفعالهم المنسوبة للتدين، فالإسلام يترفع عن النزول لأرض من يسوق نفسه ويفرضها به في محاولاته المكشوفة بالانتصار للدين وهو في الواقع الانتصار لنفسه من خلال الدين، الإسلام دين الله المحفوظ من دون الحاجة للانتصارية، أو التقويم من بعد انكسار. الحركة الوطنية التي يكون فيها الدين منطلقها الأساس لا الحركة الدينية التي قد يكون فيها الوطن بمصطلحه جزءاً منها أو قد لا يكون البتة! هذا ما يجب أن ندركه ونراجع به أزمة خطابنا المزودج وهذه هي الإشكالية الثانية. فجميعنا نعاني من أزمة الخطاب المزدوج، فما يقال حول طاولة مستديرة يختلف عما نحشو به عقول تلاميذنا، وما نقرأه وننادي به داخل حجرة المكتب أو في زاوية صحافية يختلف عما نمارسه فعلياً في بقية حجرات المنزل، أو خارج مجتمع الصحيفة الصغير إلى مجتمع الشارع الأكبر! فتصبح بهذه الحال الذاكرة الجماعية نفسها للمجموعات الفكرية المختلفة تحمل ترسيبات سلبية توسع الفجوة بين واقعنا وبين رؤية ملك، وكأننا نتحدث عن أديان مختلفة وليس دين واحد. يجب النظر مرة أخرى إلى حقيقة غابت عن الكثير، الدين عامل لقاء ومصالحة، عامل وحدة للإيمان بمؤسسة، فكيف نسمح للمشهد السياسي العام المتأجج بالصراع عليه؟ وكيف يكون للدين دور في هذا النزاع؟! الأمر الذي حجب عنا أن الديانات السماوية الثلاث عاشت آلاف السنين بمحبة ووئام وائتلاف، ولعل المنطقة تشهد على مآثر العيش المشترك وتراث التفاعل الإيجابي الخلاق الذي أدى إلى تكوين الحضارة العربية التي من مكوناتها الثقافية اليهودية والمسيحية والإسلام، فضلاً على إدخال هذه الديانات في تكوين المواطن العربي جزءاً من ثقافة الآخر ما أغنى المنطقة وجعلها قبلة لكثير من الانجازات التاريخية. نظرة خاطفة أخرى إلى مشهد الأحداث بعد 11 (أيلول) سبتمبر وما أعقبها من حروب وما نشهده قبل هذا التاريخ من احتلال، وكيف شكلت عدد من الدول شبكة على الإرهاب القائم على الأيدلوجيات الدينية، فيظهر القائمون بهذه الأعمال الإرهابية بأنهم أئمة وأبطال مجددون للدين يقومون بأداء واجبهم الشرعي! وكيف اكتسب الإرهاب من هنا صفة دينية مزعومة التصقت بالإسلام والإسلام منها منزه وبراء؟ لعلنا بحاجة إلى إعادة الاعتبار إلى الثقافة كهوية مشتركة، وإبعاد الدين عن توظيفه باسمها منعاً لاستغلاله، فالدين ليس مسؤولاً عن كل الاحترابات والتوتر الفكري، ولكن الدين يشكل عنصراً مكوناً لهذا التوتر بارتداء مشلحه! لسنا في حاجة لاستحضار كل تجارب وخبرات الجوار بتوظيف الدين في الثقافة والانطلاق منه لتحقيق غايات بعيدة كل البعد عن روحية الإسلام، بدعوى حمايته والانتصار له والحفاظ عليه حتى وإن قاد ذلك إلى نزاعات دموية مشرعة بفتاوى التكفير. لا يمكن الادعاء بأن هناك شيئاً مؤكداً في سماء المستقبل... لكن هناك من المؤشرات الخطرة ما يجعلني أعتقد أن مسألة الاحتقان الفكري بلغت من التورم الذي لا يحتاج إلى أكثر من شكة إبرة صغيرة! وهناك من يتربص. * باحثة سعودية في شؤون الأمن الفكري. [email protected]