يظهر حوار الأديان كحاجة ملحة في أوقات التوتر بين المجتمعات، إلا أن أهدافه ونتائجه تختلف باختلاف دور وفاعلية رجال الدين في الحياة العامة والخاصة، وأيضاً باختلاف درجة احتكاك الفرد العادي بأتباع الديانات الأخرى. حوار الأديان قبل 500 عام، غير حوار الأديان قبل 200 عام، غيره اليوم... دور رجال الدين اختلف، فآنذاك كان فاعلاً أساسياً في الحياة السياسية والاجتماعية والعلمية والشخصية، اليوم، إلا ما ندر، يكاد يبقى له دور في الحياة الشخصية، أيضاً نسبة عالية من أفراد الكرة الأرضية تقابل في كل يوم من حياتها شخصاً من كل دين بشكل مباشر أو بواسطة الإعلام، في حين أن معظم الناس كان يولد ويموت ولا يعرف أو يطلع على خبر أحد من غير دينه. وقد جاءت خطوة الملك عبدالله في وقت أحوج ما يكون الناس فيه إلى التسامح الديني، فالأديان تحتاج إلى إعادة تأسيس دورها الأخلاقي والروحي، كما أن الإسلام بحاجة إلى أن يصحح نظرة الناس إليه بعد أن ارتبط بالعنف في السنوات الأخيرة، ثم إننا مقبلون على انفتاح حضاري لم تشهده البشرية، لقد صرنا نصلي في مطار دولي في غرفة مخصصة للأديان كافة، وقد يأتي يوم يكون هذا مشهداً عادياً في مدننا وقرانا وليس في المطارات فقط. والانفتاح الحضاري على وجه الخصوص يتطلب حواراً من نمط خاص إذا ما كان سيحقق المراد منه... وفي ما يلي بعض معالم هذا النمط: - رؤية متوازنة لدور الدين في الصراع الحضاري: كلمة الثيولوجي «هنز كونغ» تلخص دافعاً أساسياً لحوار الأديان: «لا سلام بين الأمم بغير سلام بين الأديان... لا سلام بين الأديان بغير حوار بين الأديان»، كلمته فيها مبالغة وتوحي بأن الأديان سبب رئيس من أسباب الصراع العالمي، وهذا غير صحيح، فالحروب بين الأمم ذات الدين الواحد لم تكن أكثر من الحروب بين أمم من ديانات مختلفة، ثم إن أشرس الحروب لم يكن للدين فيها أي دور، يتضح هذا بمجرد النظر إلى الحروب خلال ال 200 عاماً الماضية... الحروب النابليونية... حروب التحرير في أميركا الجنوبية... الحروب بين الدولة العثمانية وخصومها المتعددين مثل الروس والانكليز والفرس... الحروب المختلفة في شرق آسيا بين الصين واليابان والهند... حروب أفريقيا المختلفة بين المستعمرين في صراعهم على القارة، ثم التي تلت بعد خروج الاستعمار... الحروب الأوروبية المختلفة، خصوصاً الحربين العالميتين... حروب فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي... الحروب الأهلية العربية... الحرب العراقية الإيرانية... الإبادات العرقية في البوسنة ورواندا ودارفور... هذه وغيرها مآسٍ إنسانية ذهب ضحيتها ملايين الناس وليس للدين أي علاقة فيها، بل حتى الحروب الصليبية التي يعتبرها البعض نموذجاً لحروب دينية نشأت بفعل عوامل اقتصادية سياسية في أوروبا ولا علاقة للمسيحية بها، هذا لا يعني أن الدين لم يتم محاولة استغلاله في الحروب ولكنه لم يكن المسبب. - تمييع السلطة الدينية، الذي يجعل الدين أداة في يد المستغلين من سياسيين أو اقتصاديين أو حتى إرهابيين، هي وجود سلطة دينية: أشخاص لديهم حق الحديث باسم الدين ولديهم حق على الآخرين بالانصياع، وبالتالي فإن حوار الأديان يجب أن يسعى لتوسيع دائرة المتحاورين لتشمل مع «ممثلي الدين» أتباع الدين، كما يجب أن تناقش لقاءات حوار الأديان فكرة «السلطة الدينية» وتسعى لتفكيكها وتمييعها باعتبار أنها الأداة التي تحول الدين من نظام روحي أخلاقي إلى وقود لصراع على المصالح، إن تفكيكها هو أقوى وسيلة لإعادة دور الدين إلى الحياة، ثم إن بقاء السلطة الدينية يجعل أتباع أي دين يشعرون بأن عليهم الانتظار لرأي «ممثلي الدين» قبل اتخاذ موقف إنساني من أتباع الديانات الأخرى. - استعداد للاجتهاد في «الثوابت»: ثم لا بد من إظهار الاستعداد للاجتهاد في تعريف «الثوابت»، فالثوابت لم تصبح ثوابت إلا بقرار أفراد من السلطة الدينية في مرحلة تاريخية ما، ومن أهم هذه الثوابت هو حكم الله تعالى على المخالفين، فهل يمكن لشخص أن يتحاور مع أناس بغرض خلق محبة ووئام وهو يؤمن أنهم أناس على ضلال مبين، وأنهم عند الله ملعونون، وأنهم إلى جهنم وبئس المصير؟ عندما يكون مثل هذا فإن الحوار يتحول إلى مجاملة محدودة في مكانها وزمانها وأثرها، ولا يعني هذا الاستعداد أننا سنتغير بالضرورة، وقد نبقى على ما نحن عليه، ولكن لا بد من فتح هذا الباب وإلا لن يكون لحوارنا مظهر الجدية. - إدراج غير المتدينين في الحوار: لا بد من توسيع الشريحة المستهدفة من الحوار لتضم الأفراد الذين يمارسون نقداً ومراجعة ذاتية في كل ديانة، وعدم الاقتصار على المتدينين التقليديين، فواقع الحال يظهر لنا أن النوع الأول من الأشخاص هم من يبني جسور التواصل الحقيقية بين الأديان والشعوب، لأنهم قادرون على تجاوز بعض العقبات النفسية في نظرتهم لأتباع الديانات الأخرى، كما أنهم شريحة تمثل قطاعاً واسعاً من القيادات الفكرية والسياسية والاجتماعية في العالم، وبالتالي فإن ضمها يحقق أهدافاً كبيرة في إثبات استعداد أتباع الديانات للعيش السلمي، وفي إزالة التهم السلبية اللاصقة بالأديان. - الحوار من خلال المشاركة الإنسانية: إذ إن الحوار يهدف أساساً إلى التأكيد على الإنسانية المشتركة، فيجب التقليل من الحوار الفكري والتركيز على تعزيز الشعور بإنسانية الآخر، حوار الأديان يعتمد على فكرة أننا متفقون في الغالب، وبالتالي علينا التعاون في مساحات الاتفاق وترك مساحات الاختلاف، وهذا صحيح نظرياً، ولكن نعلم أن الاتفاق الغالب لم يكن مانعاً من استخدام الخلافات الأقل لتغذية الصراعات، الاقتتال بين الناس لا يحصل لأنها ترى أنها مختلفة، بل يحصل لمّا تتجاهل إنسانية الآخر، ثم إننا لا نتحاور لأننا متفقون في الغالب، بل لأن علينا التعايش السلمي حتى لو كنا مختلفين في كل شيء، لذلك يجب أن تتحول ورشات حوار الأديان من ورشات فكرية معزولة عن الواقع إلى ورشات تفاعل إنساني، مطلوب أن تتحول إلى ورشات نقول فيها لبعضنا البعض «بقطع النظر عن أفكارنا وعقائدنا فإن لدينا المشاعر والأحاسيس والآمال والطموحات والرغبات ذاتها... نحزن لما تحزنون... ونفرح لما تفرحون... نحب الخير ونبغض الشر...». إن اجتماع مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين وهندوس وذهابهم في زيارات جماعية لقرية مسيحية في جنوب أميركا، وأخرى بوذية في فيتنام، وأخرى وثنية في أفريقيا، وأخرى هندوسية في الهند، وأخرى مسلمة في أندونيسيا، ثم قيامهم بتعليم أهل تلك القرى مهارات الحياة الأساسية بهدف رفع معاناتهم الإنسانية وبغير إضمار أي غرض في تحويلهم عن دينهم، إن هذا يحقق أهداف حوار الأديان أكثر مما يحققه لو اجتمعوا في صالة مغلقة للحوار الفكري فقط، إن حوار الأديان ليس بالبحث عن المتفق الفكري بين الأديان، بل في تجربة المتفق الشعوري بين الإنسان في تلك الأديان. - الاقتصار على الدعوة إلى الأخلاق: لأنَّ هدف الأديان الأساسي هي الأخلاق، فلا بد من تطوير لغة خطاب أخلاقية محايدة وغير مؤطرة بإطار ديني، بحيث تصبح الأخلاق هي هدف أي دعوة وليس التحول من دين إلى آخر، إن هذا يجعل من الأديان وقوداً حقيقياً للأخلاق، لأن الداعي عندها ينطلق من حرارة إيمانه لا لكي يحول الآخر إلى دينه، وإنما لكي يرشد الآخر إلى الأخلاق المشتركة الإنسانية، وفي هذا خير رسالة لكل من يتهم الأديان بأن همها الأتباع. إذاً: رؤية متوازنة لدور الدين في الصراع الحضاري + تمييع السلطة الدينية + استعداد للاجتهاد في «الثوابت» + إدراج غير المتدينين في الحوار + الحوار من خلال المشاركة الإنسانية + الاقتصار على الدعوة إلى الأخلاق = حوار فاعل يخدم متطلبات القرن المقبل. وفي هذه القضايا تحديات كبرى، ولكن علينا أن نكون مستعدين لطرحها إذا ما أردنا للحوار أن يتحول من مجاملات فكرية وديبلوماسية إلى واقع ملموس في حياة كل واحد منا. [email protected]