لا يمكن تصنيف ناصر، الذي يتكوّم عند عتبة بقالة في أحد أحياء محافظة الأحساء، بثوب «رث»، وشعر «مُبعثر»، وذقن يأكل نصف وجهه، «مختلاً عقلياً». على رغم أنه يعيشُ «صمتاً سرمدياً»، فأذناه عاجزتان عن التقاط الذبذبات التي يصدرها ضجيج من حوله. ولا يدري مَنْ هو، ولم يفطن حتى هذه اللحظة أنه المعني باسم «ناصر»، أو أنه ذكرٌ، وهناك ما يدعى «أنثى». وتصرّمت السنين، واختطفت من عمره 37 سنة، لم تفرق معه. كأنه ابن سنتين أو أربع. ونشأ ناصر الأصم، في أسرة فقيرة، لم يجد فيها أي عناية، وشبّ في «عزلة عن العالم»، زاده ازدراء الناس تضاؤلاً وابتعاداً. وتنتهي الأمور على هذه الشاكلة، حين ينصب الناس سدوداًَ في وجه الأصم، ويحرقون الجسور التي تصلهم به. وفي المقابل، تجاوزت أم فاطمة، صدمة اكتشافها أن سبب «شرود» طفلتها هو «الإعاقة السمعية». فعملت بكل جهد، وبادرت لأن تمنح ابنتها «فرصة الحياة»، وأسعفها ورث أبيها، وثروة زوجها، فسافرت بها إلى الكويت، وألحقتها بمعاهد متخصصة، ما ساعدها على أن تشب «شخصية اجتماعية»، تتحاور مع الجميع بلغة الإشارة والقلم، فإن تعذر الأخير، كتبت بإصبعها على راحة يدها. المهم أن تُبقي خط اتصال مع العالم من حولها. أما زهرة، فمن يراها تقلب هاتفها النقال، لن يصدق لوهلة أنها «لا تسمع، ولا تنطق». كانت تحتضن طفلها، وتنتظر دورها كي تصفف شعرها، فانشغلت بطلي أظافرها، وتصفح المجلات الملقاة على الأريكة بجوارها. حظيت بزوج «سليم»، اختارها شريكة حياته دون سواها. واستطاع مع السنين أن يترجم إيماءاتها إلى «لغة»، لا تفوقها الكلمات المسموعة، وإن أكدت شقيقته أن «غموضاً بسيطاً» يعرقل التواصل بينهم. إلا أن السنين لم تبقِ منه شيئاً. واستطاعت زهرة بشخصيتها المؤثرة، السيطرة على سلوك أولادها الثلاثة. وعلى رغم اللغة المشفرة التي تدور بينهم، فهم يفهمونها، ولا يعصون لها أمراً. وتضيف شقيقة زوجها، أن «كثيراً من الزوجات اللاتي لا يعانين من أي إعاقة، يفتقدن لشخصية زهرة، المؤثرة في توجيه أبنائها». وأكدت حميدة، التي قضت 40 سنة، لم تسمع خلالها صخباً من حولها، أن «الإعاقة لم تشكل معاناة كبيرة بالنسبة لي، إذ تكيفت مع وضعي، وأستطيع التواصل مع الآخرين»، مستدركة أن «نظرات الشفقة هي الشيء الوحيد الذي يجعلني أفيق على معاناتي، وهو ما يحدوني لتفضيل التواصل مع نظيراتي الصم». وعلى رغم ما تجده لديها من «قناعة ورضا تام»، إلا أن «ألماً» يسمع من نبرة صوتها، وهي تؤكد أنه «لا مبرر لتأخري، وعدم زواجي حتى هذا العمر، غير إعاقتي السمعية». وأشارت حميدة، إلى أن جميع أخوتها وأخواتها متزوجون، بمن فيهم أخوها، الذي يحمل الإعاقة ذاتها. وأردفت «لست الوحيدة التي مضى قطار زواجها، من دون أن تستقله، فكثير من صديقاتي من الصم، لم يحالفهن الحظ كذلك. لا لشيء سوى الإعاقة السمعية». وأعادت توجيه دفة الحديث، لتبدي اعتزازاً شديداً بنفسها، وأن قدرها في أن لا تملك أذناً واعية، لا يدعو لأن تنتقص من ذاتها. وقالت بكلمات مكتوبة: «أحترف كثيراً من الهوايات، وأتفوق على كثيرات في الطبخ، ولا يعجزني التواصل مع من حولي، وأستطيع أن أفهم ما يطلبونه مني، وهم يفهمون ما أريد». وأكدت مجموعة فتيات، في استطلاع نفذته «الحياة»، قبولهن الزواج من شاب معوق سمعياً. وأشارت ندى، إلى أنه «إذا كان يستطيع استخدام المعين السمعي، فلا حجة لرفضه، إن كان ذا خلق ودين، ويستطيع تحمل المسؤولية». فيما لم تشترط زكية غير «الخلق، والدين، والعيش الكريم». وكذلك كان رأي مريم، وأفنان، وأخريات، واحدة فقط أبدت عدم قناعتها بالارتباط بزوج ذي إعاقة سمعية. كما سألت «الحياة»، مجموعة أمهات، حول رأيهن في تزويج الابن، أو البنت، بصاحب إعاقة سمعية، فأبدين إجابات «حائرة». وأشرن إلى أنه سؤال «صعب». فيما التزمت مجموعة شبان، الصمت. ولم تصل إجابة واحدة حتى الآن. وأكمل محمد عبدالله دراسته الثانوية، في تخصص الحاسب الآلي، وبعد فترة تحصّل على وظيفة حكومية، بمسمى «ناسخ» في أحد مراكز التربية الخاصة، واستطاع أن يتزوج، وينجب، وهو يعيش الآن في بيت مستقل، بوظيفة مناسبة. وكذلك الحال مع عباس علي، الذي أكمل دراسته المتوسطة. وحصل على وظيفة «ناسخ آلة كاتبة» في أحد المراكز، وسنحت له الفرصة لإكمال المرحلة الثانوية المسائية، وتزوج ورزق بأولاد «سليمين»، وتمكّن من بناء منزله الخاص، بعد 22 سنة من التوظف.