يبرز الموقع الذي يشغله المركز الثقافي النسائي للصم بالمنطقة الشرقية، مفارقات الحياة. فالشارع المقابل له في الضفة الأخرى، تحتل مساحته قاعة كبيرة للاحتفالات بمدينة الدمام، لتعني الصخب بكل ما تعنيه الكلمة، فيما موقع المركز لا يعني سوى الصمت المطبق، بكل ما يعنيه الصمت. ثمة شعور ينتاب كل من يدلف إلى المركز ويتجول بين أرجائه، لا ليقرر المضي في الدخول، بل معاودة الانصراف من حيث أتى، لكن الشيء الوحيد الذي يبقى عالقا في الأذهان تلك الابتسامة التي يستقبلك بها حارس المركز؛ لأنه ربما لا يمتلك سواها، فيما تمضي الابتسامة لتتوزع على مترجمات لغة الإشارة، وصولا إلى الموظفات الصم اللاتي يعملن بعطاء بين أقسام المركز التعليمية والفنية والمهنية المتنوعة. في داخل المركز يتقاسم الجميع لغة الألم، ومع ذلك تعلو محياهم لغة الابتسامة، تشعر أن من في المركز يستند على قوة الإرادة والعطاء، والعزيمة العالية، يكرسون التأكيد على أن الإعاقة لا تعني لهم شيئا، كون التحدي والعطاء ديدنهم فيسمعون بأعينهم ويتكلمون بأيديهم. صفر في المجتمع في المنطقة الشرقية تشعر الفتيات الصم بالفارق، ليس بينهن وبين الأصحاء، بل وأقرانهن في المناطق الأخرى، وتحديدا في الرياضوجدة: «لا يوجد لدينا مركز للفتيات الصم في المنطقة الشرقية، مقارنة بالرياضوجدة، لتتسع الفجوة»، بهذه الكلمات فتحت رئيسة الهيئة التنفيذية المشرفة على المركز الثقافي النسائي للصم بالمنطقة الشرقية نوال الرشيد، باب الحديث المترجم بلغة الإشارة عبر المترجمة هناء الغامدي «بات المركز الذي لم يكمل عامه الثالث منذ التأسيس، يشكل ملاذا وفرصة سانحة للفتيات الصم بالمنطقة للقاء وتبادل الخبرات والمعارف فيما بينهن وكسر قيود العزلة التي كبلهن بها المجتمع، والاستفادة من مناشط المركز في مجالات الحاسب الآلي والفنون الجميلة والتشكيلية والجوانب التعليمية، ما أفرز ارتفاعا في المستوى الثقافي لدى 160 فتاة صماء يحتضنها المركز». وترفض الرشيد مفردة إعاقة لمن يحتضنهن المركز، رافعة السبابة عاليا لمن يريد حتى وصفهن بذوي الاحتياجات الخاصة «لسنا معاقات، نحن قادرات ولسنا من ذوي الاحتياجات الخاصة، بل أصحاب القدرات الخاصة، لا نختلف عن الناطقين إلا بالتواصل وإيصال المعلومة فقط نحن نملك من الذكاء والإبداع ما يعجز عن وصفه اللسان ». لا اندماج مشيرة إلى أن 7 آلاف من فئة الصم يعيشون بالمنطقة الشرقية من الجنسين بيد أن الرجال لهم فرصة كبيرة للاندماج مع المجتمع، ولا يواجهون نفس الصعوبات التي تواجه الفتاة، حيث لا يوجد دمج للفتيات الصم في مدارس التعليم العام، بل تحصر الفتاة بين جدران معهد الأمل مع فئة الصم، ما يصعب لديهن التواصل مع المجتمع الخارجي بمجرد خروجهن من المعهد، بعد إتمام المرحلة الثانوية، وتأسيس اللغة في المعهد لم يكن كما يجب، فلم يتعلمن الكتابة؛ لذا نلحظ أن أغلب الفتيات تشكل اللغة لديهن صعوبة بالغة». وتؤكد الرشيد على جملة من العقبات والصعوبات التي تواجه الصماء خلال تواصلها مع العالم الخارجي« يأتي على رأسها افتقار الدوائر الحكومية لمترجمي إشارة من الجنسين، ويجب توافر مترجمي الإشارة بكافة القطاعات، وبالأخص المستشفيات والمحاكم ومراكز الشرطة والقطاعات التي تتحكم بمصائر الناس، وتحتاج إلى دقة وأمانة في نقل المعلومة للصم، وفي أغلب دول العالم يوجد مترجمو لغة الإشارة كموظفين رسميين بكافة القطاعات إلا أن السعودية تفتقر إلى هذا الأمر الحيوي والهام بالنسبة إلينا». عجز المترجمات وتعترف نوال أن إقبال السعوديات على تعلم لغة الإشارة بات يشهد ارتفاعا في الفترة الأخيرة، بيد أن عدد المترجمات المتقنات للغة الإشارة لا يزال قليلا «في المركز لدينا مترجمتان من الناطقات كموظفات: أروى الدوسري وفاتن المطيري، وواحدة متطوعة هناء الغامدي، ونحتاج إلى مترجمات أكثر بكل قسم من أقسام المركز ، لكن يجب أن تكون المترجمة ناقلة للإشارة بوضوح وإتقان كي يتسنى التواصل معها، وهناك مترجمات حاصلات على تربية خاصة لكنهن لا يتقن لغة الإشارة ما يوقع الصم في حرج لا سيما في المواقع الحساسة». وعن فرصة الفتيات الصم في قطاع العمل تؤكد الرشيد أنه لا مجال للتوظيف في القطاع الحكومي للفتيات، وأن الغالبية يتم توظيفهن بشركات لفترة محدودة ثم يتم تسريحهن: «الفتيات لم يكملن الدراسة عقب حصولهن على الثانوية العامة، ما يصعب فرصة حصولهن على وظائف لا سيما والجامعات توصد أبوابها أمامهن، وإن تم قبولهن فلا جدوى من ذلك كون الجامعة تحتاج أيضا إلى مترجمات إشارة لنقل المعلومة، وما يتم تدريسه، وباتت الفتيات يقدمن على الابتعاث هربا من هذا الواقع المجحف». نريد جامعة وفي مقابل مطالبتها بوجود مترجمات في الجامعات اعتبرت الرشيد إنشاء جامعة خاصة للصم مطلبا ملحا وهاما لا بد أن يطرح، ولم تخفِ تعرض بعض الفتيات الصم للتوظيف الوهمي أو الاستقطاع من رواتبهن دون وجه حق في بعض الشركات «يأخذون أسماء الصم من الجنسين غطاء للسعودة، وقد تعطى رواتبهم وقد تسلب أيضا، وديوان الخدمة المدنية لا يعير اهتماما للصم، حيث لا يطرح وظائف للفتيات ما يجعل الفتاة تعيش في كبت نفسي، رغم أن الفتيات مبدعات وقادرات على العطاء حيث تعمل إحدى فتيات المركز في معمل أسنان بشركة أرامكو، بصراحة لدينا إمكانيات ونستطيع العمل في كافة المجالات ولكن لم تمنح لنا الفرصة، بيد أن الصم لا يحظون بوافر الاهتمام والرعاية من المجتمع، ونقولها علانية: الصم في مجتمعنا صفر». وفيما يخص التعاطي بين الفتاة الصماء وأهلها تشير نوال إلى أن بعض الأسر لا تتواصل مع أبنائها الصم ما يولد لديهم شعورا بالكبت ومشكلات نفسية أخرى مترتبة على هذا التصرف وإحساس بأنه معزول عن المجتمع الخارجي، مشيرة إلى أهمية أن يتعلم أفراد الأسرة لغة الإشارة إذا كان أحد أبنائها من الصم «بعض الفتيات يتضايقن من جهل الناس بلغة الإشارة ما يجعلهن يتجنبن الزيارات وينعزلن، والمركز يقدم دورات مجانية لمن تريد أن تتعلم أبجدياتها معتمدة من لجنة خبراء مترجمي لغة الإشارة تحت إشراف المدير العام للاتحاد السعودي لرياضة الصم سعيد القحطاني، إلى جانب أن المركز يوفر مترجمات للفتيات الصم وقت احتياجهن». ولم يسلم التليفزيون السعودي من سهام الانتقاد التي وجهتها نوال الرشيد «على الرغم من توفير التليفزيون مترجم إشارة لبعض البرامج إلا أن صورة المترجم التي تظهر أسفل الشاشة صغيرة ومدعاة للملل، ولا توضح كافة الإشارات ومن الأفضل أن تكون أكبر مما هي عليه الآن». أنشطة رياضية ولم تغب الرياضة عن اهتمام القائمات على المركز حيث يبدو أن هاجس السمنة بات يقلقهن أيضا ما حدا بهن إلى تخصيص أنشطة رياضية تمارسها الفتاة داخل المركز، منها تنس الطاولة وتمارين الجري وغيرها، وتطمح مسؤولات المركز إلى إدخال رياضة كرة السلة للمركز، بيد أن محدودية المساحة أوقفت هذا الأمر لحين الحصول على الدعم الكافي لتطوير مناشط المركز: «نحتاج لدعم مالي للتطوير، لا سيما أن الموظفات بالمركز جمعيهن من الصم، ما يضاعف أهمية الدعم والاهتمام بهذه الفئة». ضرب وترهيب داخل الدار بدت فتاة مصابة بضعف السمع، إحدى ضحايا التعنيف، اسمها ربيعة السهيمي، تشرح أنها تعرضت لعنف من معلمتها العربية الوافدة، أثناء دراستها في المرحلة الابتدائية، ما جعلها تترك مقاعد التعليم إلى غير رجعة مكتفية بما تعلمته في الصف الثاني الابتدائي في إحدى المدارس « لم أكمل دراستي بعدما تعرضت للضرب والترهيب بإغلاق الباب علي داخل الفصل، ما انعكس على إيماني بالتعليم وبالعملية التربوية وجعلني أمقت مقاعد الدراسة». وترى السهيمي أهمية توفير الأجهزة السمعية لهن لأنهن ضعيفات السمع. وتحلم أنفال الرويحي ضعيفة سمع، بدخول الجامعة بيد أن هذا الحلم تخشى ذهابه أدراج الرياح «لا توجد جامعة تستقبلني وغيري كثر من الفتيات اللاتي لا يجدن القراءة والكتابة، على الرغم من تخرجنا بتقدير امتياز من الثانوية، إلا أن المعلمات في المعهد يتحملن ضعف التأسيس الذي نعاني منه». وتتمسك الرويحي بحلم الوظيفة « إلا أن السؤال الذي يتبادر إلى ذهننا أين أتوظف؟ على الرغم من تقديمي إلى عدة قطاعات عن طريق الإنترنت، وما زالت لحلم الوظيفة بقية في داخلي». وتخشى مشرفة قسم التجميل ضعيفة السمع نورة الرويحي التفكير في التدخل الجراحي، فيما تستخدم موظفة صماء ومشرفة الحاسب الآلي بخيتة البريكي الكتابة في التواصل «تقدمت بطلب وظيفة في عدة قطاعات، بيد أن الرفض كان رفيقي في كل مرة، الوظيفة تحتاج شهادة جامعية ولكن كيف أدخل الجامعة، كما أنهم لا يقبلونني لأني صماء». وتؤكد المترجمة أروى الدوسري على أهمية توفير المترجمات؛ لأن تعثر إيصال المعلومة للأصم يدخله في دوامات كثيرة. فيما ترى مشرفة الفنون التشكيلية نوال الشريدة، أن هناك حالة من الجهل في أوساط المجتمع فيما يخص لغة الإشارة، مشيرة إلى أن الأجانب يتواصلون مع الأصم بانسيابية وبدون أي صعوبات «المجتمع هنا يتعامل على أن الأصم إنسان ناقص ويستحق الشفقة وهذا غير صحيح». مساعدة على الزواج وأبانت نائبة الرئيسة والمشرفة على القسم التعليمي فاطمة العنزي أن عدد المترجمين الرجال الموجودين في الشرقية محدود جدا، ولا يكاد يذكر وهم اثنان فقط، لافتة إلى عدم وجود شخص متخصص في لغة الإشارة في المحاكم، ومؤكدة على حماية حقوق الأصم والمعاملة الحسنة من قبل الأهل، وأهمية تعلم الوالدين لغة الإشارة للتواصل مع أبنائهم «بعض الأسر تعامل الأصم معاملة سيئة تصل إلى حد الحبس، وعدم الاكتراث به، ما ينعكس بالسلب على تكوينه النفسي، ويجب دراسة هذه اللغة ضمن مناهج التعليم في المدارس». وأشارت العنزي إلى أن القسم التعليمي بالمركز يولي أهمية كبيرة لتعليم القراءة والكتابة للفتيات كونهن يعانين من ضعف حاد في اللغة نظير التأسيس السيئ في معهد الأمل إبان دراستهن، لافتة إلى أنهن في المركز يعملن على تسهيل زواج الفتيات الصم ويعملن على رفع مستوى الثقافة بدمجهن في المجتمع أما مشرفة الدعم في المركز وفاء الشيخ، فترى أنها: «تعلمت في سن متأخرة وبفضل المركز الكثير من معاني القرآن، وما يخص ديني، كنت أجهلها نظرا إلى سوء تأسيسي كصماء، ولا يوجد تعليم جيد للأصم في معاهد الأمل، وأعتقد أن تعلم لغة الإشارة لا يكفي حيث يحتاج إلى تطبيق فعلي لها كي لا تنسى مثلها في ذلك مثل تعلم أي لغة » .