إلى عهد قريب، وقبل حلول موسم الربيع العربي الذي دخل عامه الثاني، كان التدوين باللغة العربية علامة مضيئة في سماء الإنترنت العربي تكاد تطغى على ما سواها. وربما يذكر كثيرون بشوق وحنين غامرين ذلك الحراك التدويني الهائل الذي عرفته مواقع الاستضافة المجانية العربية والأجنبية، وبخاصة على موقع «مكتوب» بكل نسخه القديمة وقبل أن ينضوي تحت مظلة محرك «ياهو» العملاق. ولم يكن موقع «مكتوب» إلا نموذجاً واحداً من عدد لا يكاد يحصى من المواقع العربية التي فتحت قواعدها ومنصاتها لإطلاق صرخات البوح أمام المواطنين العرب على اختلاف أعمارهم ومشاربهم واهتماماتهم. وانتعش التدوين عندما كان لفن البوح بالكلام أثر وقيمة حتى قبيل انطلاق الشرارة الأولى للثورات العربية التي جاءت متزامنة مع ثورة «فايسبوك» و»تويتر». لكن تلك أيام مضت، أما اليوم فشمل المدونين العرب قد تبدد، وتبددت معه العهود والمواثيق التي قطعوها على أنفسهم. وصرف الشباب العربي النصف الأول من اهتمامه في اتجاه مواقع التواصل الاجتماعي، وبخاصة «فيسبوك» و»تويتر»، أما النصف الثاني ففي اتجاه أنظمة «ايوس» و»أندرويد» وما يرتبط بها من أجهزة وتطبيقات، فيما بات آخرون يبحثون لهم عن مكان في المواقع الإلكترونية التي تعرف في مجملها ضحالة وإسفافاً في مؤشر خطير إلى ما تشهده اللغة العربية من تآكل خطير يهددها. وشكلت المدونات ثورة فعلية على الشبكة في 2010، وتزايد عليها الإقبال يوماً بعد آخر، بخاصة أنها لا تتطلب إجراءات إدارية أو قانونية أو تكاليف مادية من أجل إنشائها، بحيث ناهز عدد المدونات المغربية وحدها 80 ألف مدونة، وفق إحصاء أجرته جمعية المدونين المغاربة سابقاً. لكن المدونات النشيطة لا تتعدى 4 أو 5 آلاف على أبعد تقدير وتحول اغلب أصحابها إلى فايسبوك وأنشأوا مواقع إلكترونية ضمت جمعيات لم تمنحها الدولة اعترافاً أو ترخيصاً قانونياً. إحدى تلك الجمعيات ضمت أكثر من 300 مدون أكثر من نصفهم أسسوا مواقع إلكترونية ففشل البعض منهم في التجربة فيما بقي آخرون يحاولون البقاء رغم الإكراهات المادية وضعف التكوين الصحافي. ويرى المدون سعيد بن جبلي أن بعض أصحاب المواقع الإلكترونية عرفوا انزلاقات أفقدتهم الصدقية بسبب اختلاطهم بالسياسيين والمؤسسات فيروجون لخطاباتهم الرسمية مقابل ضمان مصدر تمويل ما يؤدي إلى استبلاد القارئ عبر مقالات هي عبارة عن إشهارات مندسة وإعلانات ملغومة. وأوضح بن جبلي إن الإعلام الإلكتروني له تحد خطير على القانونيين من أجل ترشيده عبر تعاقد ضمني. أما عادل أقليعي الرئيس السابق للرابطة المغربية للصحافة الإلكترونية فيقول: «منذ ثلاث سنوات تحول عدد من المدونات المغربية إلى بيوت إلكترونية مهجورة، ولعل وجهة غالبية هؤلاء الممسكين بالفأرة ذهبت إلى مواقع التواصل الاجتماعي وإلى إنشاء مواقع إلكترونية إخبارية». ويتابع: «هذه الرحلة الإلكترونية بطبيعة الحال لها سلبياتها وإيجابيتها، لأن ليس كل ما ينشر على الشاشة الإلكترونية على درجة واحدة من الصدقية. فالتدوين والمواقع الاجتماعية تبقى دائماً فضاءات أكثر ابتعاداً على القواعد والحواجز المهنية، ولعل هذه الثقافة التي اعتاد عليها كثير من المدونين جعلوها من ضمن أبجديات ممارستهم للكتابة على المواقع الإخبارية». وتبقى المواقع الإخبارية أو الصحف الإلكترونية فضاء ينبغي أن يحترم الأنواع الصحافية ويلتزم شروط الكتابة الاحترافية المتسمة بالدقة، وهي معطيات مفقودة في عدد من المواقع التي لم يخضع أصحابها لتكوين مستمر في مجال الكتابة الصحافية. ويضيف أقليعي: «لدينا في المغرب فراغ على المستوى التشريعي ساهم بشكل أو آخر في حالة الفوضى والتردد في إنشاء مواقع إلكترونية إخبارية، وزاد غياب التكوين في هذا المجال من تعميق الضعف على مستوى المحتوى». وكانت دراسة ميدانية للرابطة المغربية للصحافة الإلكترونية كشفت أن 63 في المئة من الجرائد الإلكترونية هي افتراضية فقط ولا وجود لها عبر مؤسسات قانونية، وذلك نتيجة إما للجهل بالمساطر القانونية أو للقدرات المالية الضعيفة. ووفق الدراسة نفسها فإن الهواية تغلب على مُمارسة هذا النوع من الصحافة إذ إن أكثر من 45 في المئة من أصحابها شباب لم يتلقوا تكويناً متخصصاً إضافة إلى 31 آخرين لا يُمارسونها إلا رغبة في التعبير عن آرائهم الشخصية. ويعمل 83 في المئة من مجموع صحافيي الإنترنت بالمغرب من دون مقابل مادي بسبب عدم مأسسة الجرائد الإلكترونية، في حين تعتمد 28 بالمئة فقط من الصحف الإلكترونية على عائدات الإشهار. عبد العالي أشرنان أحد المدونين الذين أنشأوا موقعاً إلكترونياً يوضح أن تجربة التدوين أكسبته مهارات في التغطية الإعلامية للأحداث. وبتمويل ذاتي يصارع عبد العالي من أجل إثبات قدراته بمعية متعاونين متطوعين، مبيناً أن هناك مواقع إلكترونية تسعى دائماً للتطبيل والدعاية للرواية الرسمية للأحداث ما يجعلها تتلقى إعلانات كثيرة، ومؤكداً أن حرصه على استقلالية خطه التحريري بمثابة ضريبة لتراجع مكتسبات حرية المدونين. ويعتبر أشرنان قانون الصحافة الإلكترونية الذي تعده وزارة الاتصال بمثابة «انتهاك جسيم لحرية الرأي لأنه يفرض الحظر والغرامات المالية المجحفة على أصحاب المواقع». رشيد جنكاري، خبير تكنولوجيا معلومات واتصالات جديدة ومستشار إعلامي، من المبكرين في ساحة التدوين المغربي الذين استخدموا وسائل الإعلام الاجتماعي للحديث عن الفساد، وحرية التعبير والتغيير السياسي. يكتب جنكاري مدونة بالفرنسية عنوانها «Je partage, donc J'existe» (أنا أشارك، إذاً أنا موجود). ويقول: «وسائل الإعلام التقليدية في المغرب أصبحت أقل شجاعة، وهذا ما دفع بنا إلى منصات الإنترنت وأعطى وسائل الإعلام الاجتماعي دوراً أكبر ليس فقط للدفاع عن حرية الصحافة، بل للدفاع عن الحريات العامة. والتحدي اليوم هو الحفاظ على حرية الإنترنت لأنها يمكن أن تحمي حرية التعبير». في المقابل كشف وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة مصطفى الخلفي أن المغرب يحتل المرتبة الأولى إفريقياً على مستوى انتشار الإنترنت٬ والمرتبة 36 عالمياً على مستوى استعمال فايسبوك. كما كشف أن هناك 480 موقعاً إخبارياً إلكترونياً في المغرب، وهو عدد يزيد وينقص، لكنه يبقى الآن - وفق رأيه - مستقراً في حدود 400. وسجل الوزير أن النسبة الأكبر من المنخرطين في هذه الصفحات والمواقع هي من الشباب، وأن 40 في المئة منهم تقل أعمارهم عن 24 سنة، لافتاً إلى أن «هذه المؤشرات تعبر في مستواها الكمّي عن تطور جديد في مجال الإعلام والتواصل الافتراضي بالمغرب»، لكن المعطيات المرتبطة بالمضمون الرقمي تظل دون المستوى المطلوب. وكان وزير الاتصال أفاد بأن تقنين قطاع الصحافة الإلكترونية بالمغرب سيفتح آفاقاً واعدة٬ ويكرس الحرية في إطار من المسؤولية٬ بما يعزز تنافسية المغرب في المجال الرقمي سواء على المستوى الإقليمي أم العالمي.