ليس لهواة معزوفة «بحيرة البجع» أن يقلقوا. ليس لمن أذهلهم الأداء المُبهِر لنتالي بورتمان في فيلم «بجعة سوداء»، ألا يناموا. وكذلك لا يجدر بقُرّاء كتاب الأميركي - اللبناني نسيم طالب، الاعتقاد بأنهم يعرفون مسبقاً ما عرضه التقرير تحت عنوان «بجعات سود» Black Swans. استخدم التقرير هذا المصطلح بمعنى أقرب ال «تفرّد» Singularity، المستعمل في الفلك والفيزياء. مثلاً، إذا كنت تراقب شلالاً وترى قرب منطقة تلاقي منحدره مع مياه بحيرة، سرب بجعات بيض يسير مبتعداً عن تلك المنطقة ثم رأيت فجأة بجعة تسير بهدوء عكس تيار الماء، بل تصعد طافية على مياه الشلال المُنحدر! ماذا تُسمي تلك البجعة؟ في الفلك، يعتبر هذا الأمر تفرّداً، بمعانٍ كثيرة تشمل كونه نادراً أو غير محتمل أو أن حدوثه يقلب المعرفة عن الأشياء. واستخدم طالب، المصطلح بالمعنى الأخير. وربما لأن البجعة السوداء هي قصة أطفال تروي تفرّد مصير بجعة بهذا اللون، سرت تسمية «بجعة سوداء» للإشارة إلى الحدث الانقلابي غير المحتمل، والمملوء بالدلالات أيضاً، من دون أن يعني هذا بالضرورة أنه سلبي، على نحو ما ذهب إليه فيلم «البجعة السوداء»! يحكي التقرير عن ثماني بجعات سود، يمكن تلخيصها على النحو التالي: 1- حدوث إعصارات نادرة لكنها فائقة القوة في الشمس، بمعنى أن تؤدي قوّتها إلى انهيارات كبرى في شبكات الكهرباء والاتصالات الخليوية، بل أن تتساقط أقمار اصطناعية عند ضربها الأرض. حدث كثير من الإعصارات في الشمس، لكنها أدّت إلى اضطرابات هيّنة نسبياً. 2- انفلات مرضٍ عُضال وفتّاك، لكنه شديد العدوى. من رأى فيلم «وباء» (إخراج وولفانغ بترسِن- بطولة داستن هوفمان- 1995)، يسهل عليه تخيّل ما يروم إليه التقرير. هل تتخيّل مرضاً يقضي على البشر بأشد مما تفعل الكوليرا، وينتقل بمثل سهولة سريان عدوى الزكام العادي والإنفلونزا؟ لا تشكّل عدوى «سارس» التي أقلقت البشر، سوى شكل من هذا الانفلات! 3- تسارع التغيّر المناخي بوتيرة أقسى مما تذهب إليه أشد السيناريوات تشاؤماً. يتضمّن المشهد تصاعداً ذرويّاً في الاحتباس الحراري، وذوباناً بمثل إغماضه العين لثلوج القطبين، وجفافاً كاسحاً في مساحات شاسعة من الأراضي وغيرها، مع ما يرافق هذه الملامح من كوارث تزلزل العيش البشري بأسره. 4- انهيار اليورو، وتفكك منظومة الاتحاد الأوروبي. لا يصعب تصوّر الأبعاد الزلزالية المرتبطة بهذا الأمر، مع تداعيات تطاول المنظومات الإقليمية كافة، ومواقع الدول الكبرى وتحالفاتها، ومسارات الطاقة وخطوطها وغيرها، إضافة إلى جرّ الاقتصاد العالمي إلى آفاق قاتمة. 5- حدوث حرب نووية، أو تمكّن جماعات غير منضبطة من الوصول إلى أسلحة دمار شامل، وضمنها مواد بيولوجية فتّاكة، أو اندلاع حروب ضخمة بين الدول الكبرى على مساحات الإنترنت، ما يؤدي إلى انهيارات كبرى في العصر الرقمي وشبكاته واتصالاته، إضافة إلى ما يرافق تلك الحروب من نتائج وخسائر، لا تقتصر على المعلومات الرقمية والمواقع الإلكترونية، بل تضرب شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية، وربما تفجير مفاعلات نووية على غرار ما كاد يحدث في مفاعلات إيران بواسطة فيروس «فلايم» أخيراً. 6- حدوث تغيير راديكالي في الصين، ربما تنتج منه صين ديموقراطية (قوية أو مفكّكة)، أو سيرها في اتجاه مُتصلّب مع نظام حكم قاسٍ وطغياني. 7- حدوث تغيير ديموقراطي في إيران، مع تخليها عن طموحاتها في التسلّح النووي. من شأن هذا الأمر أن يحدث انقلاباً استراتيجياً عميق الغور في الخريطة الجغرافية - السياسية للشرق الأوسط. ويوازي هذا الأمر التوصّل، ربما على نحوٍ مفاجئ، إلى حلّ للصراع العربي- الإسرائيلي. 8- عزوف الولاياتالمتحدة عن لعب دور خارج حدودها الإقليمية والقارية. من يملأ الفراغ الأميركي؟ ماذا يؤول إليه مصير النظام العالمي؟ كيف ترتسم صورة الردع الاستراتيجي؟ كيف تتصرف الدول الكبرى والتجمّعات الكبرى، في أمديتها الإقليمية والاستراتيجية؟