لم يحدث أن جرى التواطؤ على قضية عادلة كما يجري الآن في سورية. وإذا كان ثمة تواطؤ تاريخي أصاب، وما انفكّ، القضية الفلسطينية، إلا أن هذه الأخيرة وجدت لها مساندين في دول عدة ومؤثرة في العالم، وبخاصة إبّان الحرب الباردة. أما القضية السورية فهي تشهد الآن أكبر عملية إغماض عين في التاريخ المعاصر، إذ أضحى الدم السوري، الذي نزف من أكثر من 60 ألف ضحية لقيت حتفها، ميداناً للمناورة وشراء الوقت، وتبدّل المواقف والتكتيكات التي لن يستفيد منها إلا جزّار سورية المجرم بشار الأسد. فمرة يدفع السوريون دماءهم ثمن الصراع القطبي بين الولاياتالمتحدة وأوروبا من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، ومرة ثمن التحالف «المتين» بين إيران و «حزب الله» من جهة، في مقابل التحالف الهش لدول تنتسب إلى «أصدقاء سورية»، حيث تكشف الوقائع أنهم أصدقاء مرتهنون لتطورات اللحظة السياسية بكل حمولاتها البراغماتية. ومرة ثالثة يدفع السوريون ثمن المخاوف من صعود التيارات الإسلامية التي تهدد دول الجوار، حتى لو كان هذا الجوار من أشد المتحمسين للخلاص من بشار الأسد وعصابته، وهنا تطل إسرائيل برأس رغباتها واشتراطاتها، فهي تسعى إلى التواصل مع نظام حكم في دمشق يؤمّن لها حدوداً معافاة من الاحتكاك، وقضّ مضجع جبهة الجولان الساكنة منذ أكثر من ثلاثين عاماً. ولا يشعر الساسة الذين يتلونون، وفق هذه الأهواء المتبدلة بأي حرج وهم يقلّبون مواقفهم، فيما الشوارع تمتلئ بالضحايا، وفيما بورصة القتل والتهجير والتدمير بلغت حداً غير مسبوق في التاريخ المعاصر، وهو ما يكشف سقوطاً أخلاقياً فادحاً، وتواطؤاً منبوذاً يقدم المصالح الآنية العابرة على القيمة الكبرى في الكون: الإنسان. إن السوريين الذي رفعوا شعار «يا وحدنا»، و «ما لنا غيرك يا الله» كانوا يعبّرون عن أقصى ما في النفس البشرية من إحساس بالعزلة والإقصاء، لكنهم لم يقطعوا تلك الشَعرة التي تبقي حبل التعويل على النخوة موصولاً، لكنّ الشعرة انقطعت، ولم يرفّ للنخوة جفن، فهي تغطّ في سبات طويل، مانحة السفاح فسحة كي يشحذ سكّينه ويواصل قتل المزيد من البشر الذين يجترحون المعجزات في صبرهم، ومقاومتهم آلة الذبح والإفناء. وإذا كان ثمة فسطاطان، واحد للخير وآخر للشر، فإن الوقائع المتتالية تشير إلى انتصار قوى الشر، في مقابل تلجلج قوى الخير، وارتباكها، وحيائها، ونكوصها. إن الشر يمشي على الأرض وفي السماء، وله جنود مرئيون بعيون زرق، ولحى تسبّح بحمد الإمام والسيد، فيما «كتائب» الخير تفكر، بل وتطرق في التفكير، في الخطط الكفيلة بإرغام جزار سورية على الرحيل، وكأن الحرب تحسمها الرغائب، وكأن الموت يردعه التلويح بعقوبات لفظية واجتماعات ماراثونية، وتهديدات يسمعها القاتل فيكاد يسقط على ظهره من فرط القهقهة! ويخشى المرء أن يقع في التعميم، فيقول إن جميعهم متورطون في سفك الدم السوري، وجميعهم مسؤولون بدرجة أو بأخرى عن تمكين سفاح دمشق من أن يأخذ قيلولة على ظهر سفينة روسية يقال إنها ملاذ القاتل الذي لا يبدو أنه يشعر بثقل الحمولة الأخلاقية الباهظة التي يقذف بها في وجه الضمير الإنساني الذي صار يتعامل مع الحدث السوري بمنطق العادة، ويحمد السماء لأن عدد القتلى أقل من ذي قبل، أو لأن الدم في الشوارع جفّ قليلاً، ولربما يثور قليلاً، لبرهة على أقصى تعديل، إن خالفت بورصة الدم توقعاته، أو ارتفع منسوب القتل قليلاً أو كثيراً. إنها المأساة إذاً. تأخذ شكل التراجيديا، كما ترتدي وجه الملهاة. أما الضحية، فلا تملّ من النداء الموجّه إلى سماء مثقوبة ببراميل البارود: «ما لنا غيرك يا الله»! * كاتب وصحافي أردني