منتصف حزيران (يونيو) عام 2011 زار الرئيس الفنزولي هوغو شافيز هافانا حيث رحب به الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، واعتبره حليفاً وصديقاً قلَّ نظيره. ولاحظ كاسترو، أثناء اجتماعهما المغلق، أن ضيفه كان يتململ في مقعده، وهو يشدّ بقوة على خاصرته بطريقة لم تخفِ مظاهر الوجع على وجهه الشاحب. وسأله كاسترو باهتمام بالغ عن أسباب اضطرابه وارتباكه! وضغط شافيز على خاصرته كأنه يشير إلى موقع الوجع، وقال بصوت متهدج: هنا. أشعر بألم لا يُطاق. ومن دون أن يستأذنه بالموافقة اتصل كاسترو بطبيبه الخاص، وطلب منه الحضور على وجه السرعة من أجل نقل الرئيس الفنزولي إلى المستشفى المركزي في هافانا. وبعد إجراء فحوصات طبية دقيقة، تبين أن شافيز مصاب بالسرطان في منطقة الحوض، الأمر الذي يحتاج إلى معالجة بالمواد الكيميائية. وكان من الطبيعي أن تتأثر حياته السياسية بالمرض الذي يحتاج إلى عناية وراحة دائمتين. ولكنه استطاع الصمود وتحمل الآلام بفضل الحيوية التي توفرها جماهير الفقراء ممن كان يعتبرهم قاعدته الأساسية في «حزب فنزويلا الاشتراكي.» ومثلما كان يحرص بعض زعماء العرب على تعليق صورة صلاح الدين الأيوبي في صدر مكاتبهم، كمؤشر على الاقتداء بانتصاراته المجيدة... هكذا حرص شافيز على وضع صورة سيمون بوليفار في كل ركن من أركان منزله أو قصر «ميرافلوريس» الرئاسي. وبوليفار، الذي يحمل في نظر المؤرخين لقب «المحرر»، كان القائد الذي فجَّر ثورات العصيان ضد الحكم الإسباني في كل بلدان أميركا اللاتينية. وبفضل انتصاراته نالت فنزويلا وكولومبيا (1819) والإكوادور وبوليفيا، استقلالها وسيادتها الوطنية. الشخصية الأخرى التي أثرت في المواقف السياسية التي تبناها شافيز كانت شخصية فيديل كاسترو. وهو يعتبره بمثابة الأب الروحي وال «غورو» الذي يحرص على استشارته في كل كبيرة وصغيرة، خصوصاً في الأمور المتعلقة بسياسة «الإمبريالية الأميركية»، أي السياسة التي تصدى لها كاسترو لأنها تعتبر الدول المحيطة بأميركا الشمالية مجرد حديقة خلفية يجب أن تخضع حكوماتها لتوجيهات واشنطن. وربما توقع شافيز محاكاة دور الزعيم الكوبي الذي نصحه أطباؤه بالتخلي عن مسؤولياته المرهقة وتجيير صلاحيات الحكم إلى شقيقه راوول. ولكن شافيز سرعان ما اكتشف أهمية الثروة النفطية التي حُرِمَت كوبا من حظوظها، ورأى أن استغلالها لدى الطبقات الشعبية المهمَّشة يمكن أن يخدم طموحاته ويقوي مركزه كرئيس دولة وكقائد حزب. قبل فوز هوغو شافيز بمنصب الرئاسة عام 1999، كانت فنزويلا تخضع لنظام الحزبين اللذين تناوبا على الحكم مدة أربعين سنة تقريباً. وبدلاً من استثمار ثروة النفط، وتوزيع مردودها بشكل عادل ومفيد على مختلف الطبقات الاجتماعية، قام زعماء الحزبين بتقاسم العائدات وتخزينها في المصارف الأميركية والسويسرية في حين حُرِمَت غالبية السكان (24 مليون نسمة) من الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والكهرباء والماء وطرق المواصلات. لذلك لم يكن مستغرباً أن يفوز الكولونيل شافيز بنسبة 80 في المئة من عدد المقترعين. والسبب أن الناخبين صوتوا لنهج التغيير الذي وعدهم بتحقيقه، وقرروا إسقاط كل الرموز التقليدية التي عانوا جشعها وإهمالها منذ عام 1952. في مؤتمر القمة السادسة عشرة لدول حركة عدم الانحياز التي عُقدت في طهران، حاول شافيز تقليد دور كاسترو في الموقف الداعم لمبادئ مؤتمر باندونغ (1955). ولكنه فوجئ بكلمة الرئيس المصري محمد مرسي الذي انتقد نظام الأسد في سورية، ووصفه بأنه نظام قمعي غير شرعي. عندها انسحب الوفد السوري من القاعة وسط ذهول قادة الدول. واستغلت الصحف الأميركية هذه الحادثة لتهاجم دول عدم الانحياز، وتقول إنها غير محايدة وغير موحدة في علاقاتها الثنائية. والدليل على ذلك ما قدمته من ضحايا في الحرب الباكستانية-الهندية، والحرب العراقية-الإيرانية. موقف الرئيس المصري محمد مرسي في قمة طهران (26-8-2012) لم يثنِ شافيز عن مؤازرة حلفائه في المنطقة، وخصوصاً إيران وسورية الأسد. لذلك قرر التصدي لسياسة الحصار التي تمارسها واشنطن ضد سورية، موصياً حكومته بضرورة إعانة دمشق على تخطي محنتها الاقتصادية. تجاوباً مع هذه التوصيات، قامت الحكومة الفنزويلية بعقد سلسلة صفقات تجارية كان أهمها: أولاً- تزويد نظام الأسد بكميات من وقود الديزل، الأمر الذي يسمح لدمشق بحماية احتياطاتها المتآكلة من النقد الأجنبي. ثانياً- مساعدة سورية على الالتفاف على العقوبات الغربية من طريق هيئتين تشملهما العقوبات هما البنك التجاري السوري وشركة النفط الحكومية (سيترول). ووفق معلومات نشرتها صحيفة «وول ستريت جورنال» فإن قيمة التبادلات التجارية بين سورية وفنزويلا ارتفعت من 6 ملايين دولار عام 2010 إلى ستة بلايين دولار السنة الماضية. تُعتبر فنزويلا ثالث دولة منتجة للنفط ورابع دولة مصدرة له. ووفق أرقام «أوبك» فإن إنتاجها اليومي من النفط يتعدى المليونين و470 ألف برميل. إضافة إلى إنتاجها الضخم من الغاز والديزل والفحم الحجري والمعادن الثمينة. وقد استخدم شافيز كل العائدات النفطية وخلافها، مدة 14 سنة من حكمه، لبناء تعاونيات تؤمن الحاجات الضرورية للطبقة الفقيرة بأسعار زهيدة. كما أمر بتشييد مساكن شعبية للعاطلين من العمل وذوي الدخل المحدود. وفي كل مرة كان يخرج من قصر الحكم ليواجه أصحاب المطالب، كان يحرص على تذكيرهم بأن الثورة «الشافيزية» انطلقت من أجلهم. أي من أجل الفقراء والمحرومين. رئيس ائتلاف المعارضة، رامون افيليدو، كان دائماً يهاجم مصطلح «الشافيزية» لأنها في نظره تمثل كل ما هو غير ديموقراطي وغير عادل. وهو يرى أن مشروع شافيز يقوم على المبالغة في خدمة الطبقة الفقيرة بحيث أصبحت حزبه الشعبي عن غير حق. والسبب أنه يعطيها من مال الدولة، ولكنه يوحي لإعضائها بأن عطاءاته تُمنح بفضل مقررات القصر الجمهوري لا بفضل مقررات الحكومة أو مجلس النواب. أما زعيم المعارضة انريكي كابريليس، الذي حصل على نسبة 44 في المئة مقابل 55 في المئة لشافيز، فهو يُعتَبر المرشح الجدّي للرئاسة. خصوصاً أنه حقق اختراقاً سياسياً مؤثراً بسبب اعتماده على كتلة الوحدة الديموقراطية المؤلفة من أحزاب الوسط بشقيها اليساري واليميني. كما أن احتفاظه بمنصب حاكم ولاية «ميراندا»، وإلحاقه الهزيمة بنائب الرئيس سابقاً الياس خوا (حوا – من الشوف)...، فتحا أمامه أبواب المنافسة ضد نيكولاس مادورو، وزير الخارجية، الذي رشحه شافيز لخلافته. وفي رسالته المتلفزة التي بعث بها من المستشفى أوصى شافيز شعب فنزويلا بأن يدعم مادورو لأنه خير مَنْ طبَّق إصلاحاته، وحافظ على نهجه. علماً أن مادورو كان يعمل سائق شاحنة. وكما استعدت كاراكاس يوم الخميس الماضي للاحتفال برئيس غير موجود أمام الجمعية الوطنية... هكذا نظَّم المنتدى القومي العربي في لبنان لقاء تضامنياً مع شافيز من دون حضوره أيضاً. وقد جرى الاحتفال في حينه أثناء وجود الرئيس الفنزولي في قمة إيران لدول حركة عدم الانحياز، والتي استمرت خمسة أيام من آب (أغسطس) الماضي. وأقيم اللقاء التضامني في طرابلس بمشاركة مسؤولة التنظيم العربي-الفنزولي ايزابيل فرنجية. وتحدث باسم المنتدى فيصل درنيقة، معدداً المواقف التي اتخذها شافيز لنصرة الحق العربي. واختار منها: زيارته بغداد خلال الحصار الأميركي... ووقوفه إلى جانب الفلسطينيين في معركة غزة... ودعوته للابتهاج بالنصر الذي حققه «حزب الله» في حرب 2006. ومن المتحدثين في ذلك اللقاء كان: نقيب المحامين السابق خلدون نجا والشيخ محمد الزعبي وعبدالناصر المصري والدكتورة ناديا شعبان. وأشار أحد الخطباء إلى الاهتمام الذي يوليه شافيز للمغتربين اللبنانيين (حوالى 250 ألف نسمة) بدليل أنه أدخلهم في صلب إدارته، ومنحهم مراكز متقدمة في مختلف الوزارات. وهذا ما فعله مع الجالية السورية أيضاً. وقد عُرِف من المغتربين اللبنانيين خلال حكم شافيز الأسماء التالية: ريمون أبشي، المترجم الخاص ومستشار لشؤون الشرق الأوسط. وهو إبن عم إدمون أبشي من زغرتا، أحد أصحاب فندق «غراي» في بيروت وصاحب فندق «أبشي» في إهدن. فادي عبدالنور (وزير الطاقة). هند عنداري (وزيرة التجارة). هيمان دواره (وزير التطوير والإنماء). طارق المدّاح (وزير الداخلية والعدل). هيفاء المدّاح (منصب مدعي عام). أنور حلبي حرب (مدير بنك التسليفات الوطني). فارس العيساوي (رئيس دائرة السياحة). جورج عبدالنور ( مدير شركة مارينا للنفط). عادل الجابر سمارة (نائب في البرلمان). الياس الخوري (رئيس مؤسسة الدراسات والاستفتاء). هيثم الهاني (مدير في إحدى دوائر الأمن العام). ثريا غصوب (أمينة عام دائرة الشرطة). وسام أبو حرب حلبي (صحافي يعمل في التلفزيون الرسمي). غازي عاطف نصرالدين ( من كبار موظفي وزارة الخارجية). إدوار سمعان نامل (من كبار موظفي وزارة التجارة). الياس حوا (نائب رئيس الجمهورية سابقاً). بقي السؤال الذي يُطرح في الأندية الدولية حول مستقبل «الشافيزية»، وما إذا كانت ستستمر بعد غياب شافيز؟ الجواب يعرفه العرب من خلال «ناصرية» جمال عبدالناصر. صحيح أن نائب شافيز مادورو سيلعب دوراً مركزياً للحفاظ على نهج معلمه... ولكن الصحيح أيضاً أن الظل ليس كالأصل، والوكيل ليس كالأصيل. من هنا يرى المراقبون في كراكاس أن فنزويلا مقبلة على أيام خطيرة في حال قررت المعارضة الاحتكام إلى اضطرابات الشارع بهدف إخضاع بنود الدستور لاجتهادات سياسية لا ترضي أنصار شافيز. وينص الدستور على أداء الرئيس المنتخب اليمين الدستورية أمام الجمعية الوطنية في احتفال لا يمكن تأجيله. والمؤكد أن مادورو اعتمد في موقفه على مادة أخرى في الدستور تفيد بأنه في حال تعذر أداء الرئيس المنتخب القسم أمام الجمعية الوطنية، فيجب أن يفعل ذلك أمام المحكمة العليا. ومعنى هذا أن الدستور لم يحدد أي مهلة. ولهذا قررت المحكمة الدستورية اعتماد هذا الحل الذي يعطي نيكولاس مادورو فرصة ملء الفراغ إلى حين شفاء الرئيس أو موته... كما يعطي رئيس البرلمان ديوسدادو فرصة أخرى لتصريف الأعمال إلى حين حسم موضوع الرئاسة. والملفت أن الحزب الحاكم اختلف على أي منهما يستحق لقب الوريث الحقيقي. ولهذا باشر المتظاهرون في حمل يافطات ورفع شعارات تحيي الإثنين معاً. ويبدو أن زعماء المعارضة قرروا الانتظار إلى حين تكشف كوبا عن حقيقة الوضع الصحي لرئيس يعتبره الأطباء في حكم المنتهي! * كاتب وصحافي لبناني