ما أفضل المقاربات الأكاديمية لدراسة مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي؟ وإلى أي حد كانت هذه المفاوضات ومخرجاتها انعكاساً لطبيعة علاقات القوى بين الطرفين؟ وما هي أسباب الحرص الأوروبي على استمرار المفاوضات مع تركيا رغم ما تشهده من بطء شديد؟ وما هو مستقبل المفاوضات، بخاصة في ضوء الجمود الراهن الذي تشهده نتيجة عجز الاتحاد الأوروبي عن إعطاء زخم لعملية التفاوض مع تركيا، وكذلك بسبب معارضة دول أوروبية مؤثرة لفكرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. كانت هذه بعض التساؤلات التي شملتها أطروحة الباحث المصري أحمد مجدي السكري للدكتوراه وعنوانها: «عملية التفاوض الدولي: دراسة نظرية مع التطبيق على المفاوضات التركية - الأوروبية»، والتي قدمها إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وحصل بمقتضاها أخيراً على درجة دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية بتقدير ممتاز. تتناول الأطروحة مفاوضات انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي من خلال مقدمة وأربعة فصول وخاتمة. تضمنت المقدمة الإشارة إلى أن هذه المفاوضات تتسم بخصوصية تميزها عن غيرها من مفاوضات انضمام دول شرق ووسط وجنوب أوروبا إلى الاتحاد، وهي الخصوصية التي تنجم بشكل أساسي عن طبيعة القضايا محل التفاوض بالإضافة إلى طبيعة القضايا الشائكة التي تواجه العلاقات بين تركيا وأوروبا وانعكاسها على مسار تركيا الأوروبي. وفي ما يتعلق بالبيئة التي تحركت في إطارها المفاوضات التركية - الأوروبية، أوضح الباحث أنها تتنوع على مختلف الأصعدة الدولية والإقليمية والداخلية بما يؤثر في إدراك طرفي عملية التفاوض طبيعة البيئة التي تجري فيها المفاوضات وما تمثله من ضغوط على صانعي القرار التركي والأوروبي وما تتيحه من فرص لكل منهما. ودفعت عوامل متشابكة في اتجاه بدء المفاوضات، في مقدمها هيكل النظام الدولي واحتلال الدائرة الأوروبية مكانة متقدمة على أجندة السياسة الخارجية التركية عبر المراحل المختلفة سواء خلال مرحلة الحرب الباردة أو بعد انتهائها، وأثر الجغرافيا السياسية والعوامل الحضارية كعوامل مؤثرة في تطور العلاقات التركية - الأوروبية وانعكاس ذلك في البيئة التي تدور فيها المفاوضات. أما مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فتناولها الباحث من خلال مبحثين، يدرس أولهما طبيعة القضية محل التفاوض وأهداف المفاوضات التركية- الأوروبية، وذلك من خلال عرض الإطار التفاوضي لعملية التفاوض التركية- الأوروبية، ويحلل ثانيهما عملية التفاوض من خلال عرض قضايا عملية التفاوض بين الطرفين من حيث معايير كوبنهاغن والموقف التركي منها، والملفات محل التفاوض، بالإضافة إلى بحث الأبعاد الحاكمة لعملية التفاوض التركية - الأوروبية. وأوضحت الدراسة أسباب اتخاذ الاتحاد الأوروبي قرار بدء المفاوضات مع تركيا، وهي: أن التردد السابق للاتحاد الأوروبي في قبول بدء التفاوض مع تركيا كان عاملاً سلبياً بالفعل في العلاقات التركية - الأوروبية وتسبب في أزمة حقيقية في تلك العلاقات، حيث بدا للأتراك أن الاتحاد الأوروبي يتعامل مع بلادهم وفق معايير مزدوجة، وليس هناك ضمانات كافية لتحقيق حلمهم، ووضح أيضاً أنه ليس بمقدور الاتحاد الأوروبي من ناحيته الدخول في أزمة جديدة مع تركيا، خصوصاً وهو لا يزال يعاني أزمة رفض الدستور في عام 2005 الذي ينظر إليه على نطاق واسع بأنه كان بمثابة ضربة موجهة لعملية التكامل الأوروبي. أنه مع انشغال أوروبا الغربية في النصف الأول من التسعينات باستغلال الفرصة التي أتاحها انهيار الاتحاد السوفياتي بضم دول أوروبا الشرقية لتحقيق التناغم بين تاريخ القارة وجغرافيتها، لم تكن تركيا واقعة في قلب هذه العملية، كما لم تكن خارجها بالكامل، وإنما بدت بحكم الجغرافيا والتاريخ معاً تحل في أولوية تالية. كان ذلك ولا يزال، لاسيما بعد انضمام مجموعة دول شرق ووسط القارة فعلياً للاتحاد الأوروبي في أيار (مايو) 2004، من دواعي توتر العلاقات التركية - الأوروبية، إذ إن هذه الدول، من وجهة النظر التركية، حديثة التحول نحو اقتصاد السوق وحديثة الديموقراطية على النمط الغربي مقارنة بها، بل وحديثة الانتماء الفعلي للغرب في القرن العشرين، ولم تبذل من أجله ما بذلته تركيا على الأقل من الناحية الأمنية من خلال عضويتها في حلف الناتو. فذرائع الاتحاد الأوروبي التي تقول باستيفاء هذه الدول معايير العضوية دون تركيا ليست حقيقية بالمرة. ولذلك، كان من الصعب للغاية التراجع عن الوعود التي كان الاتحاد الأوروبي قطعها على نفسه لتركيا. كان الاتحاد الأوروبي ملزماً أخلاقياً بأن يضع في تقديره ذلك التشريع الجسور الذي مررته حكومة رجب طيب أردوغان في حقل حقوق الإنسان، والذي يتضمن تبني قانون جديد ينص على إلغاء عقوبة الإعدام، وعلى اعتبار التعذيب فعلاً يعرض مرتكبيه للعقوبة الجنائية. أنه كان هناك إدراك على نطاق واسع بين دول الاتحاد مؤداه أن اغلاق الباب في وجه تركيا، قد يحمل في طياته خطر إقصاء الرأي العام التركي ودفعه إلى التشدد، ما يؤدي إلى إدخال عنصر خطير من عناصر عدم الاستقرار في منطقة الشرق الشديدة التقلب بطبيعتها. أنه ونظراً إلى أن أوروبا تواجه خطراً إرهابياً غير مسبوق من قبل المتطرفين الدينيين، فإنه كانت هناك حاجة ملحة لمد جسور مع تركيا، وهي الدولة التي قامت بالتوفيق بين هويتها الدينية والإرث العلماني والديموقراطي لكمال أتاتورك، ولعل ما يدعم هذا خصوصية الحالة التركية وعلاقاتها بأوروبا عموماً والاتحاد الأوروبي بخاصة، وهو الأمر الذي يفسر الفرحة الغامرة التي سادت تركيا عقب إقرار قمة الاتحاد الأوروبي لعام 1999 مبدأ قبول تركيا دولة مرشحة، رغم أن الوثيقة الصادرة عن القمة آنذاك لم تشر من قريب أو بعيد لبدء مرحلة التفاوض، إلا أن صدور القرار في حد ذاته حمل اعترافاً بأن تركيا يحتمل أن تنضم يوماً إلى الاتحاد الأوروبي رغم الصعوبات الجمة التي تعترض ذلك والتي لم تحُل دون بدء المفاوضات في الثالث من تشرين الأول (أكتوبر) 2005. في السياق نفسه، أوضح الباحث أن هناك مجموعة من الشروط التي وضعها الاتحاد الأوروبي، سواء لانضمام تركيا إليه أو لبدء التفاوض معها، ويلاحظ أن الشروط الأوروبية وإن سيقت لها أحياناً مبررات ضعيفة أو قوية تحت ألفاظ مختلفة، فإن الحقائق التي تكمن وراءها لم يفصح عنها الزعماء الأوروبيون، وجمعت هذه الشروط مواقف الدول الأوروبية المختلفة وأرضت كل دولة منها. وأوضح الباحث أن عملية التفاوض التركية - الأوروبية تعتبر نظاماً مفتوحاً، وبالتالي فهناك إمكانية أن تستوعب أية متغيرات طارئة أو أحداثاً مباغتة يستحيل التنبؤ بها مسبقاً والتي قد تكون من الخطورة بحيث تقوض المفاوضات التركية - الأوروبية. وأوضح الباحث أن هناك إدراكاً لدى الاتحاد الأوروبي بأن نجاح مسار تركيا الأوروبي، سيمثل حافزاً لها لدعم توجهها الغربي من ناحية، واستمرارها في تنفيذ حزم الإصلاحات الهادفة إلى تحديث أوضاعها الداخلية على النمط الغربي بما يتفق مع المعايير الأوروبية في هذا الشأن، بخاصة على صعيد دعم قيم الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة. ومن ثم، هناك علاقة طردية بين الإصلاحات الداخلية التي تشهدها تركيا خصوصاً في قضايا الحريات المدنية وحقوق الأقليات والتطور الديموقراطي، والتقدم الذي تشهده عملية التفاوض التركية - الأوروبية، إذ إن التقدم في هذه القضايا يؤثر إيجابياً في تحريك مسار عملية التفاوض التركية - الأوروبية للأمام، كما أن التراجع قد يصيب الإصلاحات الداخلية في هذه الموضوعات وينعكس سلبياً على مسار عملية التفاوض وهكذا. أما عن الاستراتيجيات التفاوضية التي اتبعها الطرفان، فقد غلبت عليها سمتان هما التنوع والتعدد، إذ اتبعا تكتيكات متنوعة ومختلفة تتناسب مع الهدف من الإستراتيجية التفاوضية، وبما يتفق مع طبيعة القضايا محل التفاوض وكذلك توقيت إجراء الجولة التفاوضية من حيث توجهات الحكومة التركية وتوجهات الرئاسة الدورية الأوروبية، بالإضافة إلى طبيعة العلاقات الثنائية بين تركيا والدولة الأوروبية التي تشغل تلك الرئاسة، وبالتالي تعديل المفاوض التركي أو الأوروبي لتكتيكاتهما وخططهما بما يتناسب مع ظروف المواقف التفاوضية التي يواجهونها وفى الوقت المناسب. كما يلاحظ وجود علاقة عكسية بين أسلوب تفاوض الطرفين، ففي حين اعتمدت تركيا على التفاوض الفردي، فقد اعتمدت أوروبا على التفاوض الجماعي مع تركيا. ففي حين كان المفاوض الأوروبي يطبق أسلوب التفاوض من طريق المجموعات Group System، حيث شعر بقدر كبير من القوة والطمأنينة في ضوء انتمائه لمجموعة الدول الأوروبية، كان المفاوض التركي يتفاوض بصورة فردية، وبالتالي كان هناك اختلال في ميزان القوى بين الطرفين لصالح الطرف الأوروبي. واعتمد عمق الاستعداد التركي والأوروبي للتفاوض على إدراك طرفي التفاوض أهمية المفاوضات وطبيعتها وكذلك الوقت المتاح لبدئها واستمرارها ونهايتها. وانتهت الدراسة بتأكيد أن العامل الديني ليس هو المتغير الأهم في تحديد مسار المفاوضات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، إذ تبين صعوبة اختزال علاقة الطرفين في البعد العقيدي أو العامل الديني، في ضوء أن هذا العامل لم يأخذ أية صفة رسمية أو غير رسمية في مفاوضات الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، بل لا ينبغي اعتبار العامل الديني سبباً في الموقف الأوروبي المتردد من انضمام تركيا أو في تباطؤ عملية التفاوض، فهذا العامل غير مذكور أصلاً في معايير كوبنهاغن المفصلة حول شروط الانضمام للاتحاد الأوروبي. وأن هناك قضايا أخرى مهمة شكلت الموقف الأوروبي المعلن من مسألة انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، في مقدمها المشكلة القبرصية، وضرورة تطبيق تركيا بروتوكول أنقرة للاتحاد الجمركي القاضي بفتح الموانئ التركية للملاحة البحرية من قبرص والتي لاتزال علاقاتها مع تركيا بعيدة عن الثنائية والتطبيع، وكذلك مسألة تطور الحياة السياسية الداخلية وإعادة تنشيط عمليات الإصلاح الداخلية، إذ على تركيا تلبية المطالب الأوروبية المتعلقة بصياغة دستور جديد يتضمن الحريات الديموقراطية طبقاً لقوانين الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى ضمان حرية التعبير والصحافة عبر القانون والممارسة، وأخيراً دفع الإصلاح الاقتصادي قدماً، بحيث تكون تركيا إضافة للاتحاد وليست عبئاً عليه، لاسيما مع الزيادة الكبيرة في عدد السكان الأتراك، وهي القضايا الرئيسية التي تمثل مفتاح المفاوضات التركية - الأوروبية، فمن دون حسمها لن يتم تحقيق تقدم فعلي في عملية التفاوض الجارية بين الطرفين، رغم عدم غياب المعايير الدينية والحضارية في الإدراك الأوروبي لتركيا، وإن تجنب الساسة الأوروبيون الحديث الصريح عنها والإقرار بوجودها.