هل للبيئة والوسط العام الدور الرئيس في ازدهار العبقرية والإبداع؟ وبالتالي، ماذا عن أهمية وضعَي الاستقرار أو الفوضى (سياسي - أمني إلى اقتصادي واجتماعي) في تقرير المشهد الإبداعي؟ وبالرجوع تاريخياً إلى العصور القديمة، إلى عصر النهضة الأوروبية بأعلامها من ليوناردو دافينشي ومايكل أنجلو، والعهد الإليزابيثي الأول بإنكلترا، بشكسبير وفرانسيس بيكون ورائد الشعر سبنسر - علماً أن غالبية الأسماء الأخرى لم يُؤتَ على ذكرها لأنها غير معروفة للقارئ غير المتخصص فلا داعي لتشتيت الانتباه - نجد وبالعودة إلى أسباب انتعاش روح المغامرة والعبقرية آنذاك، أن العامل المشترك والمساهم الأكبر في جميع تلك الحالات (الإيطالية والإنكليزية على سبيل المثال) كان كالعادة هو العامل المادي! إن كان بالدخل الفاحش الذي أغدقته السلطة البابوية على مدينة روما بإيطاليا، والنجاح التجاري الذي تفوقت فيه مدينة فلورنسا، أو بعامل الاستتباب الأمني والاقتصادي في العهد الذهبي لإنكلترا المرتبط بحكم إليزابيث الأولى، بعد سلسلة من الاستكشافات الخارجية وخطوط التبادلات التجارية وصد هجوم الأرمادا الإسباني. ومن يقرأ التاريخ الأوروبي مجرداً من إضافاته، فسيجد أن وباء الطاعون الأسود الذي اجتاح القارة لخمسة أعوام قد قضى على أكثر من نصف سكانها وإن قيل الثلث. في الوقت الذي استقرّ فيه الذهب وسكنت بقية الأصول بلا حراك. وعليه، فمن البديهي أن تتركز الثروات في أيدي القلة ممن نجا من العائلات. ففي حين كان عدد سكان مدينة فلورنسا الإيطالية في عام 1347 ميلادية (بداية الوباء) بحدود 100 ألف نسمة، إلا أنه وبعد اجتياح الطاعون تناقص هذا الرقم حتى وصل بحلول عام 1500 إلى 50 ألف نسمة. فكيف كان تأثير التغيير الديموغرافي في رؤوس الأموال؟ تمركز المال لدى فئات بعينها اتجهت نحو الاستثمار وتمويل المشاريع الهندسية والفنية - الجمالية. فمن خلال الأموال التي ضُخت وتبنت أصحاب المواهب كان الممولون يعلنون عن هويتهم ويثبِّتون جذورهم بين غيرهم من منافسيهم. كمثل عائلة مديتشي (أصحاب مصارف) التي اشتهرت بتبنيها صاحب الموهبة الإبداعية في الهندسة والرسم وأعمال النحت مايكل أنجلو ومعه الرسام الكبير رفائيل. والآن، هل كان للسلطان القانوني بحكم عثماني دام لأكثر من 40 عاماً انكشاف على الحضارات الإبداعية؟ من الطبيعي أن يتأثر رجل بعقلية سليمان القانوني، بموهبة الخطاط والشاعر وصائغ المجوهرات، بكل ما شهده بنفسه من تطورات في أنواع الفنون كافة، وبخاصة فن العمارة في البلاد التي دانت لحكمه، سواء أكان ذاك في بلغراد أم رودوس وهنغاريا أم غيرها من الأماكن بحضاراتها القائمة. وما جامع سليمان القانوني أو جامع السليمانية بإسطنبول بتوقيع المعماري التركي الشهير سنان أغا، إلا واحد من شواهد المعمار العبقري في التاريخ الإسلامي... هذا المهندس المعماري المبدع سنان أغا - وباعتراف العالم الألماني كلوك أستاذ العمارة في جامعة فيينا - قد تفوق فنياً بموهبته وآثاره على الفنان الذي طالما اعتزت بأعماله الحضارة الأوروبية مايكل أنجلو. فماذا لدينا هنا؟ الآثار الخالدة لكل من مايكل أنجلو وسنان أغا لا على سبيل الحصر إطلاقاً، إنما للتدليل على أن تلك النفائس الإبداعية ما كان لها أن تكون وتصمد شاهدة على عصرها لو لم يُحظَ أصحابها بتبنيهم وتعهد رعاتهم بتكاليف عيشهم. فمن الخسارة الفادحة للفنان الحقيقي أن ينشغل بتوافه الأمور التقليدية عن التفرغ لموهبته وفنه. وبحكم أن الفنان هو إنسان قبلاً وأولاً مهما علا شأنه في سماء الفن، فقد تضطره حاجات الإنسان أن يضحي غالباً بأحلام الفنان. إلا أن يكون محظوظاً ويقيّض الله من يلتقط نعمته الربانية فيتعهدها بالرعاية والصيانة حتى تثمر وتؤتي أكلها. فكم من أموال مهدرة لرجال لم يهدوا الإنسانية شيئاً من نعمها عليهم! وكم من أموال لرجال أهدوا الإنسانية أكثر من نعمها عليهم! وبهذا العطاء الواعي والموجه بإيجابية تتطور الحياة. فاستخلاف الإنسان يعني أن الأَولَى له المبادرة من تلقاء نفسه قبل أن يُجبر عليها!! فإذا كان من الواقعية أن ترى الأشياء كما هي، إلا أن من التميّز أن تفعل الأشياء كما يجب أن يكون وزد عليه درجة! [email protected]