"كنوز أسرة الميديسيس" عنوان المعرض الذي يقام حالياً في متحف "مايول" في باريس، وهو معرض استثنائي يضم حوالى مائة وخمسين تحفة كانت من مقتنيات أسرة الميديسيس الإيطالية التي تمتعت بنفوذ كبير بدأ في مدينة فلورنسا وشمل جزءاً مهماً من جنوب أوروبا. وقد تميزت هذه الأسرة بتشجيعها الكبير للفنون والعمارة والآداب. بدأ النفوذ الفعلي لأسرة الميديسيس في القرن الخامس عشر وبالتحديد في عصر مؤسسها كوزم القديم (1389-1464) الذي حقق ثروة كبيرة جاءت نتيجة عمله في التجارة وتأسيس البنوك مما ساعده على اقتناء التحف الفنية وتأسيس مجموعته الخاصة، وكان رائداً في هذا المجال، كما تمكن من تأسيس مكتبة تعدّ المكتبة العامة الأولى في أوروبا. وقد عاش في عصر النهضة الإيطالية التي تميزت بالتمرد على القيم الفنية الموروثة من القرون الوسطى والعودة إلى التراث الإغريقي- الروماني وتمجيد الإنسان انطلاقاً من طاقاته الفردية. وعلى الرغم من الانقسامات السياسية الحادة بين المدن الإيطالية التي شكلت جمهوريات مستقلة عن بعضها البعض، فإن ذلك لم يؤثر على انتعاش الفنون وتجددها وانتقال أبرز تياراتها لاحقاً إلى بقية الدول الأوروبية ومنها فرنسا. كانت فلورنسا بالفعل عاصمة حركة النهضة، قبل روما، وذلك بفضل الدور الرائد لأسرة الميديسيس. كان فنانو إيطاليا في مرحلة القرون الوسطى قد ابتعدوا عن محاكاة الواقع وتجسيد الأبعاد الثلاثة في لوحاتهم متأثرين بالفن البيزنطي، لكنهم، منذ القرن الخامس عشر، ركزوا في لوحاتهم على تجسيد الأبعاد الثلاثة والأجساد الجميلة والمشاهد المستوحاة من الحياة الواقعية حتى لو كان موضوع اللوحات والمنحوتات مستوحى من قصص الكتاب المقدس. وفي زمن أسرة الميديسيس، عاش في فلورنسا عدد كبير من فناني عصر النهضة ومنهم النحات دوناتيلو الذي ذاع صيته بصفته فناناً مبدعاً يتمتع بموهبة كبيرة منذ أن كان في الثلاثين من عمره مما سمح له بالتقرب من كوزم ميديسيس الذي جعله مستشاره الفني وعهد إليه بتنفيذ العديد من المنحوتات التي تزيّن صروح فلورنسا وهي تعد اليوم من روائع العمارة الايطالية في عصر النهضة. بالإضافة إلى دوناتيلو، رعت أسرة الميديسيس مبدعين آخرين من أشهرهم ميكيل أنجلو الذي قرر أن يصبح نحاتاً بعد تعرفه على المنحوتات الإغريقية والرومانية التي شكلت جزءاً أساسياً من المجموعة الفنية للأسرة كما يبين المعرض المقام حالياً في متحف مايول. عاش ميكيل أنجلو في عصر لوران ميديسيس الملقّب بالرائع وكان الحاكم الفعلي لجمهورية فلورنسا. وأقام ميكل أنجلو في قصره سنوات عدة كأنه أحد أفراد الأسرة بحسب ما يظهر المعرض. في موازاة مواهبه الكبيرة في السياسة والعمل الدبلوماسي والمصرفي، تقرّب لوران ميديسيس من العلماء والشعراء، وشجّع بعض أكبر الفنانين الإيطاليين من أمثال فيروكيو وبوتيتشيلي، وكانت فلورنسا عاصمة حركة النهضة الإيطالية في عصره. بالنسبة إلى ليوناردو دافينشي الذي أمضى سنوات شبابه في فلورنسا فكان هو أيضاً على علاقة وثيقة بأسرة الميديسيس مما سمح له بلقاء الكتاب والفلاسفة والتعرف على التيارات الفكرية ومنها الأفلاطونية الجديدة. يكشف المعرض أيضاً أن أسرة الميديسيس تمتعت بشهرة كبيرة في أوروبا وكان الملوك والأمراء يسعون إلى توطيد العلاقات مع أبنائها ليس فقط بسبب ثرائهم الكبير وإنما أيضاً من أجل التعرف على الحركات الفنية الجديدة. من أولئك الملوك الملك الفرنسي هنري الرابع الذي تزوج من ماري ميديسيس عام 1600 وقد حملت معها إلى فرنسا ذائقتها الإيطالية واشتهرت برعاية الفنون وتشييد قصر اللوكسمبورغ في الدائرة السادسة في باريس وتعدّ حديقته من أجمل حدائق العاصمة الفرنسية.