تغريدة الكاتب والروائي السعودي الدكتور تركي الحمد في «تويتر» والتي قال فيها: «جاء رسولنا الكريم ليصحح عقيدة إبراهيم الخليل، وجاء زمن نحتاج فيه إلى من يصحح عقيدة محمد بن عبدالله» أثارت لغطاً وجدلاً كبيرين حول مقصودها أو مفهومها، ولعل المكان الذي خرجت منه وأعني به «تويتر» كان هو أسخن تلك الأماكن تفاعلاً ونقاشاً حولها، خصوصاً بعد صدور الأخبار والأنباء عن توقيفه واستدعائه للتحقيق، والذي لم يصدر في شأنه تصريح من الجهات الرسمية توضح وتبين ملابسات وأسباب ذلك التوقيف والاستدعاء! وقد كان من الطبيعي ومن غير المستغرب أن نرى الانقسام أو الصراع حول الموقف من تلك «التغريدة» أو من قائلها، ففريق ينتمي للتيار الديني والحركي تحديداً، اعتبرها قدحاً في الدين وإساءة في حق النبي عليه السلام، وسعى من خلال «التغريدة» وبكل الحجج والوسائل الممكنة إلى تأليب السلطة، والتشنيع عليه والتشفي باعتقاله وتوقيفه، والدعوة إلى محاكمته، وتحولت القضية لدى البعض منهم إلى تصفية حسابات، ولو أن تلك «التغريدة» عرضت على كثيرين منهم ومن دون الإشارة إلى قائلها لكان أسوأ الاحتمالات لديه بأن يحكم بأن قائلها كان مخطئاً في لفظه وتعبيره! أما الفريق الآخر وبرؤية معتدلة ومنصفة فهو لم يستنكر تلك الموجة العنيفة، وذلك الاندفاع المتهور والتأليب والتشفي بتوقيفه من ذلك التيار، فهو قد اعتاد عليه من حين لآخر وكوسيلة منه في إثبات الوجود، وغير ذلك افتعاله للمعارك من خلال بعض المواقف، وانصرافه وتبديد طاقاته وجهوده وإشغاله للرأي العام عما هو أهم أولى من القضايا. ورأى بعض من هؤلاء على رغم اختلافهم الفكري وبصورة جذرية مع الحمد أن من قرأ تغريداته ومن غير اجتزاء سيفهمها في سياقها الصحيح، وأنها لا تمثل إساءة أو قدحاً وإنما هي دعوة للتجديد وتنقية الرسالة المحمدية مما شابها وخالجها من تفسيرات وبدع وخرافات عبر الأزمنة والعصور، وأن ما صدر منه لا يسوّغ مطلقاً توقيفه فضلاً عن محاكمته. هذا الصراع أو النقاش والجدل حول اعتبار ذلك تنقية وتجديداً من هذا الفريق، أو إساءة وقدحاً من الفريق الآخر، قذف إلى الساحة مجدداً قضية لطالما كثر الحديث حولها على مدى أكثر من عقد من الزمن، وهي ضرورة تجديد وتحديث الخطاب الديني بما يتلائم ويتواكب مع متغيرات الحياة، فبين ظهرانينا ومن أجل هذه القضية عقدت المؤتمرات وخرجت العديد من التوصيات، وكتبت حولها العشرات من الدراسات والمئات من المقالات، والكثير من الحوارات الصحافية والتلفزيونية. لقد أكثرنا وأسهبنا طيلة تلك المدة في التنظير والنقاش حول مفهومه وأبعاده وحدوده، ولأبسط المستجدات والحوادث في المجتمع نرى أن ما تحقق من ذلك كله من نتائج في أرض الواقع ربما لا يعدل عشر تلك المجهودات والأوقات. إن التجديد الذي ينشده الكثيرون هو تجديد يشمل مجالات كثيرة ومنوعة في ذلك الخطاب، منها ما يتعلق ببنية الخطاب ومكوناته، ومنها ما يتعلق بالمصطلحات والمفاهيم، ومنها ما يتعلق بطريقة عرضه وأسلوب بيانه، ولا يمكن أن يتحقق مثل هذا التجديد إلا من خلال تعريض الخطاب الديني التقليدي السائد للنقد والفحص والمراجعة والغربلة التي تهدف إلى حفظ جوهر الدين ولا تتعداه، أي الأصول المتفق عليها عند جميع علماء الإسلام، وهو التعبير الأدق من مصطلح الثوابت الذي لا يقوم أسس ومعايير واضحة في تحديد الثابت من غيره، وأما مقصودنا بالخطاب الديني فهو ما يتعلق بالآراء والأقوال والاجتهادات والتفسيرات للنص والوحي المقدس، أي أنه المجهود البشري القابل للتغيير والتجديد والخاضع للقبول أو الرفض، بحيث توضع تلك الآراء والاجتهادات لأقوال السلف في نصابها الصحيح، ولا تضفى عليها القداسة، كما قال المفكر الإسلامي محسن عبدالحميد: «منهج الخطاب الإسلامي لا بد أن يضع خطاً فاصلاً وواضحاً بين ما هو وحي إلهي، وبين ما هو جهد بشري لمسائل الوحي الإلهي وتفسيره وشرحه في إطار قواعده وأصوله، وفي ضوء المراحل التاريخية المتتابعة، وإن تسمية الوحي وما حوله من فكر بالفكر الإسلامي لدى كثير من الإسلاميين خطأ كبير». ومن خلال ذلك يجب أن ندرك أن معالجة كثير من قضايانا ومستجدات وتحديات حياة مسلمي القرن ال21 لا يمكن أن نجد لها حلاً بالعودة إلى نقول واجتهادات موغلة في ظرفها التاريخي والزماني والمكاني، وأن معالجة كثير من قضايانا عبر اللجوء والاعتماد بصورة كبيرة على أقوال أولئك الأعلام ممن أثروا تراثنا بمؤلفات ومصنفات في قرون خلت وعصور مضت، بصورة تجعل منهم متحكمين في حاضر الأحياء ومستقبلهم ما هو إلا تغييب لدور العقل والإبداع، وأن الخضوع والاستغراق وبشكل مبالغ فيه لتلك الاجتهادات البشرية والتسليم المطلق لها وكأن الأزمنة لم تتغير، وكأن أحوال الناس ومعاشاتهم لم تتبدل، لن يؤدي إلا لمزيد من حال الجمود والانحدار والتخلف الحضاري! وأي اعتقاد بأن تلك التفسيرات التاريخية وفقهها صالح لكل زمان ومكان وأنها تملك القدرة في الإجابة على كثير من تحديات وأسئلة الحياة الحديثة التي تتسم بالتغير والتجدد وليس بالثبات والاستقرار، ما هو في الحقيقة إلا نوع من التضييق على مسلمي اليوم، وجعل الدين السامي بما حواه من قيم سامية وتعاليم عظيمة يبتعد عن التغيير والتأثير في حياة الناس وتلبية متطلباتهم، وهو ما يجعلنا في حاجة ماسة للدعوة إلى تجديد الفهم للقيم الدينية لتكون قادرة على مواكبة الحداثة والتطوير والانسجام مع الحياة العصرية ومتغيراتها، وحاجتنا لخطاب يعكس الاستغراق الإنساني الواضح في النص المقدس الذي يحرم الظلم والاعتداء على الآخرين، ويمنح الإنسان حرية الاعتقاد والرأي والاختيار. * كاتب سعودي. [email protected] @hasansalm