كشفت دراسة أجرتها أخيراً الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان نشرتها إحدى الصحف المحلية أن نسبة 94 في المئة من أفراد المجتمع السعودي يجهلون القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان وصرح كذلك رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بان ثقافة حقوق الإنسان في المملكة تعتبر منخفضة سواء على مستوى الأفراد أو المسؤولين، وهذه النسبة الكبرى في الجهل بقوانين حقوق الإنسان ما هو إلا انعكاس على تدني مستوى الوعي بأهمية ثقافة حقوق الإنسان وإلى كثرة الانتهاكات الحقوقية في المجتمع سواء على المرأة أو على الطفل أو على العمالة ونحوهم. وهذا الضعف والخلل ناتج عن عدم وجود خطاب مؤثر يعنى بطرح القيم والمفاهيم الحقوقية والإنسانية، وبالنظر والتأمل في أهم خطاب يلعب دورا كبيرا في صياغة العقل الجمعي وفي توجيه وتقويم السلوك العام في المجتمع السعودي فإننا سنجد أن الخطاب الديني في مجتمعنا يحتل مكانة وموقعاً لا يضاهيه من حيث التأثير والانتشار أي خطاب آخر وذلك باعتباره المتحدث عن أوامر الدين وأحكامه ولارتباط أفراده الفطري بالتدين بصورة عامة، لذلك فحينما نعثر على خلل في السلوك الإنساني العام لأفراد المجتمع فإن ذلك يستدعي منا ضرورة المراجعة والمحاسبة عن دور ذلك الخطاب في معالجة ذلك الخلل والقصور، فتدني النزعة والمفاهيم الإنسانية وضعف الاهتمام بحقوقه وكرامته في خطابنا الديني وغياب الإنسان فيه ظاهرة تستدعي الكثير من التأمل والمساءلة حيث لا نجد قيمة فيه تذكر للإنسان سواء على المستوى التنظيري أو على مستوى الممارسة. وهنا يجب التأكيد ونحن في سياق النقد للخطاب الديني على ضرورة التفريق بين الإسلام من واقع نصوصه الأساسية المقدسة التي هي القران الكريم والسنة النبوية الصحيحة ودلت الكثير من النصوص فيها على مبدأ مفهوم احترام الإنسان من حيث هو إنسان بصرف النظر عن عقيدته أو لونه أو جنسه وبين الخطاب والفهم والاجتهاد البشري للنصوص الدينية أو للممارسة التاريخية في المجتمعات الإسلامية، حيث أننا في هذه الحال لن نستطيع العثور فيها على صورة ذلك الإنسان المنشود والمذكور في تلك النصوص السامية وهذا ما يعبر عنه نصر أبو زيد بالفارق الدائم بين المثال والواقع أو أزمة الانفصال والتباعد مابين بين المثال الروحي المتعالي والواقع المادي الغليظ، لذلك يبرز وبصورة واضحة استغراق الكثير من النصوص الإلهية بالحديث عن الإنسان من حيث هو إنسان والدفاع عن حقه، فهي تحرم في كثير من المواضع الظلم والاعتداء على الآخرين على وجه العموم، وتمنح الإنسان حرية الاعتقاد والرأي، وتدعو إلى حفظ حقوقه المادية والمعنوية، ولكننا في المقابل لا نجد انعكاساً أو ممارسة لذلك الاستغراق الإنساني الواضح في النص على واقع خطابنا الديني سواء التقليدي أو الصحوي الذي أهمل الإنسان وحقوقه وركز فحسب على حقوق الله تعالى من الناحية العقدية أو العبادية، فجل اهتمام العالم في فتواه أو الخطيب أو الداعية في منبره هو مجرد الدعوة والأمر إلى امتثال أوامر الله والزجر عن اجتناب نواهيه والانشغال بدقائق تلك الأمور وتفاصيلها على رغم أن جميع تلك الأمور تبقى في حيز الإطار والجانب الشخصي في علاقة العبد بربه، وأما الحديث عن حق الكرامة والحقوق الإنسانية فهي من أواخر الاهتمامات في خطاباتهم، وإن ادّعوا ذلك فهي مجرد دعاوى بحاجة إلى برهان يصدقها من الواقع العملي، فهم يدّعون مثلا أن ديننا هو دين المساواة والعدل ونبذ العنصرية وفي المقابل نجدهم أصحاب نظرية عدم تكافؤ النسب التي لا يمكن لأحد أن يتصور وجودها في هذا العصر، وهم يدعون بأن المرأة لدينا معززة مكرمة وأنها تحظى بجميع حقوقها وفي المقابل لا تجدهم يلقون بالاً لما يقع عليها من ظلم وعنف وحرمان من قبل كثير من الأولياء والأزواج والأنظمة، وهم يدعون العدل وتحريم الظلم وهم لا يحركون ساكنا للظلم والاضطهاد الواقع على العمالة والخدم. وفي حال مواجهة دعاة الخطاب الديني باختلاف مستوياته بتلك الحقيقة وعن قصور وضعف ذلك الخطاب في معالجة قضايا الإنسان في مقابل منجزات الحضارة الغربية في هذا المجال، فهنا يبرز افتخارهم واعتزازهم ومباهاتهم بأسبقية الإسلام في حفظ حقوق الإنسان وذلك قبل أن تعرفها الحضارة الغربية بأكثر من 1000 سنة، وكذلك اللجوء إلى المقارنة التاريخية بين واقع المسلمين منذ 1000 سنة وبين واقع حضارة الهند أو الصين أو أوروبا في ذلك التاريخ أو في القرون الوسطى، وكله من الحق المسلم به، ولكن هذا الافتخار والاعتزاز ما هو إلا هروب من إلزامات الحاضر ومن الوقوع في مأزق المقارنة الواقعي بينهم وبين ما توصل إليه السياق الحضاري للغرب في حفظه لحقوق ومكانة الإنسان، فالقضية والنقاش هاهنا ليست حول تعاليم الإسلام وقيمه السامية، وإنما حول ضرورة الاستفادة من منجز حضاري حقوقي أصبح واقعا ملموسا في بلاد العالم المتقدم في العصر الحاضر. لذلك يجب علينا أن نقر وان نعترف بأن خطابنا الديني لا يزال يضع الإنسان في هوامش الظل ودوائر النسيان، وأن هذا الخطاب على الرغم كونه الأكثر تأثيراً وانتشاراً في المجتمع لم يستطع حتى الآن على تقديم صياغة ثقافة إنسانية تكفل حقوق كافة الأفراد فيه، وهو ما أدى إلى تخلف الأمة حضاريا، إذ لا يمكن لأمة أن تتقدم وتتطور وان تحقق الاستقرار والتنمية لأفرادها إلا بخطاب تشيع فيه النزعة الإنسانية على وجه الممارسة والتطبيق بحيث تكون لها الأولوية على أنواع الجدليات الدينية والاجتماعية كافة. * كاتب سعودي. [email protected]