ما إن بدأت الفضائيات المنشغلة بالأزمة الراهنة في سورية بث أول مشاهد النزوح الفلسطيني الكثيف من مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين حتى استعاد فلسطينيون كثر مشاهد تحاكي هذا النزوح الجديد من مسلسل «التغريبة الفلسطينية» للمخرج السوري حاتم علي. لم تفصل الذاكرة الفلسطينية المتنقلة بين المشاهد الحية التي تدور أمامها في أكبر لحظات العبث المتجددة بحق الفلسطينيين، وبين المسلسل الذي أسس في وقت سابق انعطافة كبيرة ومهمة على صعيد رؤية القضية الفلسطينية وتعقيداتها - تلفزيونياً. لم يكن المخيم الفلسطيني في المسلسل مكاناً مغلقاً أو معزلاً بشرياً. بالعكس، بدا كل شيء من حوله طبيعياً أحياناً، فثمة زيارات متبادلة بين أهله، والمحيط الذي تشكله المدن الفلسطينية أو العربية التي استضافت مثل هذا النوع من التجمعات، بل أن مخرج التغريبة اعتبر في حديث له أن المخيم الفلسطيني عانى أحياناً حتى من وجوده بين المدن الفلسطينية، وإن بدرجة أقل من تلك التي ظهر عليها بين المدن العربية في لبنان والأردن وسورية. هل بدا الواقع أشد تأثيرًا من تلك اللحظات الحرجة التي أعقبت النزوح الكبير، وأعاد حاتم علي ووليد سيف كتابتها، وبثها على الجمهور من الشاشة الصغيرة التي لم تكن تقبل إعادة إحياء هذه الذاكرة لأسباب كثيرة. الخرق الدرامي حصل هذه المرة. الخرق الواقعي طالما حصل، وإن لم يكن متجذراً عبر الفضائيات. الآن تستعاد المشاهد الحيّة ذاتها من دون إضافات كثيرة. الذاكرة الفلسطينية التي تشهد على هذا الخراب تبدو مثقلة، وتكتفي بالإشارة إلى تغريبة جديدة. كثر سيتوقفون أمام الكاميرات التلفزيونية ليذكّروا بالمصطلح الذي أسس له المسلسل السوري. لن يقلل الفلسطينيون في رحلتهم الجديدة من أهمية الرحلة وخطورتها، باعتبارها تشكل تكثيفاً لمرحلة لا يمكن قراءتها إلا من باب إغلاق القوس الدرامي الواقعي على تغريبة جديدة تقبل الفضائيات على تناول تفاصيلها بنهم، وكل واحدة بحسب توجهاتها، فيما يكتفي «المرحّلون» الجدد بالابتسام وهم يحاولون شرح مغزى التغريبة الفلسطينية الجديدة. لن يقبل هؤلاء بأقل من وصف كهذا. بات واضحاً أن الجميع يدرك فداحة ما يحصل، وإن بقي المسلسل حيّاً في الذاكرة، فلأنه اختزل تلك الرحلة بتعابير فنية جميلة ومؤثرة تؤكد أن التلفزيون بوسعه أيضاً أن يمتلك ذاكرة، بعكس كل ما أشيع عنه في دراسات سابقة. صحيح أنه يتحول إلى مطحنة في لحظات كثيرة. مطحنة يمكن أن تضع مسلسلاً مدبلجاً ونشرة أخبار وإعلاناً تلفزيونياً على قدم وساق واحدة من دون أن تعنى كثيراً بتوضيح الفروق بينها، لكنها قد تتراجع أمام الخرق الدرامي ذاته الذي أحدثه مسلسل مثل «التغريبة الفلسطينية»، ليس لأن المسلسل يحاكي قضية معقدة، بل لأنه احتفظ بتلك الذاكرة المتجددة التي يشير إليها فلسطينيو مخيم اليرموك عبر الفضائيات التي تكتشف ربما، معنى أن يكون هناك تغريبة متجددة بالأبطال نفسهم والوجوه ذاتها.