جابر عصفور الفترة المقبلة ستشهد صعود ظاهرة العنف مع علميات تضييق وحجر على الحريات، سواء من الحكومة أو القوى الموازية، فاللجوء إلى استخدام العنف في المرحلة المقبلة سيتم عبر لعبة أكثر ذكاء، بمعنى أنه لا يقترب منك، لكنه سيحيل عليك آخرين. إن استخدام العنف ضد المثقفين موجود منذ سنوات طويلة، وأحداث العنف المرتبطة بالجماعات الإسلامية كثيرة، ونستطيع أن نرصد قائمة طويلة من أسماء أشخاص استهدفتهم عمليات اغتيال من قبل هذه الجماعات المتأسلمة، على رأسهم فرج فودة ونجيب محفوظ. فهذه الجماعات في طبيعتها غير ديموقراطية، وغير قابلة للاختلاف، لأنها تربت على مبدأ السمع والطاعة، وبالتالي نجدها تمارس العنف مع من يختلفون معها، ومع تأويلاتهم للدين، وتنظر إليه بصفته كافراً ومرتداً. ما يحدث في مصر من عمليات حصار ل «مدينة الإنتاج الإعلامي»، ومبنى المحكمة الدستورية، وأحداث العنف التي وقعت أمام القصر الجمهوري، ومسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية، تؤكد أننا أصبحنا نعيش تحت وطأة أشكال متنوعة من العنف، بدءاً من العنف اللفظي، وصولاً إلى العنف المادي، ويبدو أن النظام راضٍ عن هؤلاء، وعن العنف الذي يمارسونه ضد المعارضين له من التيارات المدنية. ويلاحظ أن حجم الخلاف بين جماعة «الإخوان» والتيار اللبيرالي أقل بكثير من حجم الخلاف بين «الإخوان» والتيار السلفي، على سبيل المثل، وعلى رغم ذلك تلجأ الجماعة إلى استخدام العنف الجسدي واللفظي ضد هذه التيارات. إن ظاهرة اللجوء إلى العنف ضد مثقفين مناوئين للسلطة لن تنتهي إلا بانتهاء الفكر الجامد وشيوع الديموقراطية. على المدى القريب أنا متشائم جداً، ف «الإخوان» نجحوا في تمرير دستورهم المعيب، وسيفرضونه على الشعب بالتزوير، فهم بارعون في هذا. أما على المدى البعيد، فأنا متفائل، فثمة مجموعة من الظواهر الإيجابية منها: تحالف القوى المدنية وتشكيل جبهة واحدة ضد الأحزاب الدينية المتأسلمة. لست قلقاً، فالفكر وعبر تاريخ طويل، كلما تعرض للضغط، انفجرت القوى الإبداعية للمقاومة وأصبحت أكثر حضوراً ووهجاً. في عهد عبدالناصر وفي ذورة ما قام به من تضييق على الحريات، لم يتوقف المثقفون عن الكتابة والإبداع. محمد العباس انبعاث الكراهيات يدلّّ إلى أن معظم المثقفين في الوطن العربي لم يأخذوا وصايا اليونيسكو لوأد العنصرية على محمل الجد. فبمجرد انفجار أحداث الربيع العربي تحولت غالبيتهم إلى عوام، حيث باتوا يتصرفون بغوغائية محيّرة وعنصرية منفّرة أدّت إلى انقسام المجتمع في شكل عمودي، وهذا لأنهم باختصار لم يتلقوا ما يكفي من التربية الإنسانية التي تضع الإنسان فوق كل اعتبار. وكشفت الوقائع المعيشة عن وجود مثقف عدواني النزعة إزاء الآخر، لأنه أبعد ما يكون عن متوجبات العصر، ويعيش حالاً من العداء المزمن مع لحظة الديموقراطية... في ظل المنعطفات التاريخية تنفصم الذات على حافة الخيارات التي تفصح عن جوهرها، وفي هذا الصدد يلاحظ أن المثقف الديني المتلبّس بلبوس الحداثة والعصرانية ارتدّ إلى آخر خطوطه الدفاعية، أي إلى طائفيته وعنصريته، لأنه لم يفرق بين الدين الذي يمثل الدافع الحيوي بكل معانيه الروحية والعاطفية والإيمانية، وبين ما يمكن تسميته التديّن الذي يعني هنا الشكل الإجتماعي الذي يسعى للاستحواذ على تفكير الإنسان وعاطفته. وهذا ما يؤكد أننا بصدد حاجات ثقافية مستلبة ومصوغة عقائدياً، فالذوات الثقافية التي اعتدنا وجودها في الحقول المعرفية والفنية زحفت بسرعة ناحية الحدث السياسي، متنازلة عن كل ما بشرت به من محاربة الأصولية المتطرفة والمستعمر على حد سواء، وصارت جزءاً لا يتجزأ من حال عنفية شاملة وقودها التخوين والتأثيم. هكذا، تحول المثقف العربي إلى حالة تعبوية للعنف تحت مظلة الحرية والديموقراطية. وصار هو بدوره يرحّل قاموسه التبشيري بالعنف الذي بات في متناول الطبقات الاجتماعية المعبّر عنه بلغة سياسية محقونة بكراهية الآخر وإقصائه. وعوضاً عن مطالباته بإصلاح الخطاب العنفي صار هو أحد أركان ذلك الخطاب، بعد تقديمه نسخة مستحدثة ومراوغة من «التدين» هي بمثابة غشاء أيديولوجي يخفي وراءه مقاصد القوى السياسية التي يراد لها أن تتسيّد الموقف. وتحت ذريعة صوابية المعتقد والتوق إلى الحرية، ارتدّ كل مثقف إلى طائفته وصار يبيع رأسماله الرمزي على الفضائيات، كما يعقد التحالفات مع القوى الجديدة الناهضة، وكأننا بالفعل أمام حال من حالات إعادة إنتاج الحقل الديني داخل سياقات الاحتضان الاجتماعي، كما سمى بيير بورديو تلك الآلية المخادعة لتوطين منظومة جديدة من القيم، حيث يتمّ بالفعل تدمير الدور المدني للدين، الذي من دونه يتعذر على أي فرد الإحساس بالمواطنة أو الأمان. طالب رفاعي تبدو ثقافة العنف في العالم العربي متسقة تماماً مع الحدث اليومي المتفجّر سياسياً وعسكرياً، وهذا ما ينعكس على الحياة الاجتماعية وباقي مناحي الحياة، خصوصاً في ظلّ وجود حكّام طغاة وأنظمة دول تسلطية قمعية وغياب تام لثقافة حقوق الإنسان... أجيال عربية كثيرة فتحت عيونها وعاشت طفولتها وشبابها وربما جزءاً من مشيبها وهي تتغذى من ثقافة العنف تماماً كما تتغذّى من الهواء والماء والطعام. عانت الشعوب العربية وما زالت تُعاني منه صباح مساء حتى أصبح العنف ممارسة يومية عادية كأي ممارسة حياتية أخرى. كيف يمكن شعوباً مقموعة تتخبط في الجهل والحاجة والفقر والبؤس واللاعدالة أن تتمسك بغير العنف بحثاً عما يسدّ رمقها؟ كيف يمكن شعوباً ترى أنظمة تحكمها ولا تؤمن إلا بالحكم المطلق الظالم، ونفي الآخر المغاير وسجنه وسحقه، إلا أن تبتعد عن الحوار العقلاني المنطقي المتحضر وتتخذ من العنف طريقاً لمسيرة حياتها؟ العنف غدا موجوداً في كلّ أقطار الوطن العربي، وعبر تراكم الممارسة في شكل يومي لعقود من الزمن، هو جزء لا يتجرأ من السلوك الإنساني في عالم الأسر العربية. عنف الرجل تجاه زوجته، وعنف الزوجة تجاه زوجها، وعنفهما معاً تجاه الأبناء، وعنف الأسرة تجاه أسرة أخرى... إن غياب مظلّة المجتمع المدني الديموقراطي العادل، وغياب شعور الإنسان بقدرته على نيل حقه وعيشه الكريم، كان حافزاً للجوء إلى العنف، بدءاً بالكلام، مروراً بالممارسة الكاذبة الخادعة، عبوراً بالعنف اليدوي والعراك والاشتباك، وانتهاء بالقتال والاغتيال والتفجيرات المفخخة. إذا كان قدر الأوطان العربية أن تعيش تحت ظل دكتاتوريات ظالمة تستعبد الإنسان الحر وتحاول إذلاله، فإن الوجه الآخر لهذه الديكتاتوريات هو إنسان تصل به الأمور، في لحظة ما، إلى القناعة بأن العنف وحده الملجأ لحلّ معضلات حياته. حتى الثورات العربية العظيمة التي خرجت بصدور عارية وبسلمية أذهلت العالم مع بداية عام 2011 تردد: «حرية حرية» وجدت نفسها، في لحظات بعينها، مضطرة للدفاع عن نفسها ولو باللجوء إلى العنف بغية المحافظة على ثورتها وتحقيق مرادها. حين يستفحل العنف في أي بقعة من العالم، فإن نبرته العالية والكريهة تخفي في بشاعة ممارستها اليومية أي نبرة أخرى للعقل أو الفن أو الأدب. لكنه الإبداع الإنساني وعلى مرّ العصور، استطاع نبذ العنف، وحمل أمل الغد، وكان وثيقة وشهادة باقية على أزمنة قاسية طحنت الإنسان في دوران عجلتها. إنعام كجه جي واهمة كنت حين تصورت أن الإقامة خارج المنطقة العربية تنئي عنّي العنف. ذلك أن العنف العربي عابر للقارات ولا تصده الحواجز. لقد فتحت عينيّ، في ذلك البلد، على الصراعات السياسية والحزبية والانقلابات المتتالية والمحاكمات المرتجلة والأجساد التي تسحل في الشوارع، والمشانق التي تُنصب في شكل دوري وتتدلى منها الجثث أمام المارة. إن عنفنا معتّق ولم ينتظر الألفية الثالثة ليعلن عن نفسه، ومع هذا فإنّه تطور واستفحل واستفاد من وسائل التكنولوجيا الحديثة كافة. إنّه عنف خارج من رحم الظلم والظلام والجهل وإقصاء الآخر وغياب مفهوم المشاركة. لكنّ المثقف كان يحترم المثقف ويخالفه بنبل، ويعترف بإبداعه حتى ولو كان من الفريق الآخر. أما ما يصدمني، اليوم، فهو العنف الجاري بين مثقفين في الكثير من بلداننا. أي بين أؤلئك الذين يمتلكون ما يكفي من الوعي ويقفون على الضفة الأُخرى للسياسة، بمفهومها العشائري والطائفي والحزبي. وهو عنف يتجلى في صور بائسة: اتهامات بالعمالة. تخوين. حسد. وشاية. شتائم. احتقار أو تمييز جنسي. استخفاف بالاستحقاق. رفض ومحو للمنجز الإبداعي. شللية نمّامة وألسنة لا تستحي وفضاء إلكترونيّ ينشر الغسيل. لعلّ سياسياً محدود الثقافة أكثر رأفة من مثقف لا يكف عن الشكوى من أنه لا يمنح الفرصة لقيادة الأُمة. مها حسن كامرأة مولودة في مجتمع شرقي، اعتدت مبكراً على مشاهد العنف في حياتي. حاولت في كتابتي، التصدي لحالات العنف في مجتمعي، وركّزت أكثر على العنف ضد المرأة، باعتبارها الطرف الأضعف، وكتبتُ عن جرائم قتل النساء باسم الشرف. لكن كل هذا يبدو وكأنه ينتمي إلى عالم بعيد، إذ يكاد المشهد السوري الحالي يتجاوز لفظة العنف. ولم تعد مفردة العنف مقبولة أمام فانتازيا القتل والتفنن بالتعذيب. بل لا بد للّغة من اختراع مصطلح آخر، كالدمار، أو الإبادة، أو الاندثار. المواطن السوري اليوم، لا يشعر بأي أمان، أمام غياب مفهوم الدولة، الحق والعدالة، وبخاصة تعرضه للقصف بالطيران على مرأى العالم العاجز عن حمايته. كل هذا العنف من السلطة، ولّد عنفاً في المقابل لدى أطراف كثيرة، رأى بعضها التدخل لإحقاق الحق، وبعضها للارتزاق، فغدا المشهد مغمّساً بالدم والجثث والأشلاء. كما لو أنّ الكل، اكتشف أن الحلّ هو فقط بالعنف، ما أدّى إلى استخراج الوحش الكامن داخل الإنسان، والذي حاولت المفاهيم المدنية دفنه. ولكن الحقيقة أن الإنسان هو وحش، يرغب في استعادة وحشيته. ثمة استمتاع بالقتل، قتل لمجرد القتل، قتل من دون سبب، بربرية مطلقة، بل صار إثبات الذات يتم عبر القتل. إن استمرار العنف، يغيّب مفهوم الحق والعدالة والعقاب، ويهدد مجتمعاتنا بفقدان مدنيتها وإنسانيتها، والحصول على نسخة جديدة من المجتمعات البدائية. نكاد نعود إلى النسخة البدائية من صورة الإنسان الذي يأكل أخاه الإنسان، وحيث لا مناص من القتل، أمام قاعدة قاتل أو مقتول، أي أننا أمام تهديد حقيقي: موت الحضارة الإنسانية.