يقول «لسان العرب» إن كلمة «سخر» هي من التسخير أو التذليل أو القهر أو الاستهزاء، وأن حرفي السين والخاء يدلان على اللين بمعنى التذليل والإخفاء وعدم الإظهار. ويقول خبراء أمراض الضغط والقلب إنه لولا النكات السياسية والإسقاطات الاجتماعية لمات كثيرون بسكتات دماغية وجلطات قلبية تحت وطأة حكامهم وحكوماتهم وآثار سياساتهم منذ وجدت مصر. ولأن القدرة المصرية المتفردة على إطلاق نكتة كالسهم هنا، أو تعليق كالطلقة هناك، أو تمرير فزورة كالصفعة هنا وهناك هي من أبرز طرق تأريخ الأحداث ووصف العصور وتوثيق الأزمات، فإن الإطلالات السنوية على عام مضى من النكات هي طريقة بديلة لعمل جردة سنوية حقيقية بطعم الدعابة. طعم الدعابة السياسية اللاذعة والحادة، بل والقاسية أحياناً والذي ميّز العام 2011 باعتباره عام الثورة لم يتوقف بقدوم العام 2012، لكنه اصطبغ بمرارة لا تخلو من غضب. فبعد عام من نكات عن رفض الرئيس السابق حسني مبارك الرحيل وتشبثه بالبقاء وسؤاله عن وجهة الشعب معتقداً أن الأخير هو من ينوي الرحيل بعدما طلب منه أحد مساعديه توديع شعبه، تحولت الدفة إلى «الإخوان المسلمين» شركاء الثورة في مرحلتها اللاحقة وراكبي موجتها بعد انتهائها وقامعي ناشطيها بعد إزاحتهم عن الساحة بتكفير بعضهم وتشويه آخرين والتخلص من الجميع. وشاءت الأقدار أن تتزامن بداية العام 2012 والجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية (مجلس الشعب)، وهي الجولة التي قطعت أية شكوك في استحواذ «الإخوان» وحلفائهم من التيار السلفي على الغالبية بسيطرتهم على نسبة 72 في المئة من المقاعد. بزوغ «زمن الإخوان» في الأفق أدى إلى موجة توقعات تمركزت في بداياتها حول الفن. فتم تغيير أسماء المسلسلات والأفلام من «أبي فوق الشجرة» إلى «أبي فوق المئذنة»، و «دموع في عيون ليبرالية» بدلاً من «دموع في عيون وقحة»، و «التجربة التركية» بديلاً من «الدنماركية». كما تحول فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» إلى «مواطن ومرشد وحرامي»، و «عودة الابن الضال» إلى «عودة العلماني الضال»، و «ماتيجي نرقص» إلى «ماتيجي نصلّي». كما غير «همام» وجهته من أمستردام إلى قندهار! ويبدو أن المصريين كانوا على أكثر من موعد ساخر مع قندهار خلال العام 2012، إذ استخدم كثيرون مليونيات تجمع الإسلاميين بمظهرهم اللافت في إطلاق نكات ودعابات عكست قدراً غير قليل من القلق على مستقبل مصر وثورتها التي اندلعت احتجاجاً على الظلم وليس على الكفر وأملاً في عيش وحرية وعدالة اجتماعية وليس في تعلم الصوم والصلاة لأن الشعب يعرف دينه جيداً. ومن «برلمان قندهار» إلى «مليونيات قندهار» التي ذاع صيتها في العام 2012 في شكل متزايد، إلى انتخابات الرئاسة التي فتحت الباب أمام موجات الإبداع الساخر على جميع المرشحين. وحاز المرشح المُبعد المحامي السلفي حازم صلاح أبو إسماعيل نصيب الأسد من الدعابة، إذ نام المصريون ذات ليلة واستيقظوا ليجدوا شوارعهم وقد غطت جدرانها وجسورها وأعمدتها صور أبو إسماعيل في شكل أذهل الجميع، فقيل إن أحدهم وصف الطريق لصديقه بقوله: «تسير مع ملصقات أبو إسماعيل، ثم تدور يميناً، وتلتزم بصف الملصقات، أول ملصق، ثم ثاني ملصق، وتجد العنوان عند الملصق الثالث». وقيل أيضاً إن أحمد قال لمنى: «أحبك بعدد ملصقات أبو إسماعيل». المحب نفسه قال لمحبوبة أخرى إنه يحبها بعدد المرات التي ترشح فيها القاضي السابق هشام البسطويسي ثم انسحب، وعدد المرات التي قَتَل وقُتِل فيها المرشح الفريق أحمد شفيق. وبالطبع صبت القوى الثورية الساخرة جام سخريتها على العمرة التي قام بها شفيق إلى دولة الإمارات العربية المتحدة منذ ما يزيد على خمسة أشهر ولم يعد منها بعد. هذه العمرة جاءت على الأرجح كرد فعل على فوز منافسه في جولة الإعادة محمد مرسي، وهو الفوز الذي ساعد فيه إلى حد كبير حزب «عاصري الليمون». وأطلق وصف «عاصري الليمون» على المصريين الذين وجدوا أنفسهم في جولة الإعادة وشفيق من ورائهم ومرسي أمامهم، فهربوا من مقلاة النظام السابق إلى نيران نظام «الإخوان». هذا الهروب جاء بعد دعوات عدة للناخبين ل «عصر الليمون» الذي يساعد على الهضم، والتصويت لمرشح «الإخوان» درءاً لعودة النظام السابق متمثلاً في شفيق. وظهرت عبارات متمثلة في «كلنا مرسيون وعاصرون على أنفسنا ليمون» و «حزب عاصري الليمون». كما تحولت شعارات «الإخوان» من «نحمل الخير لمصر» إلى «نحمل الليمون لمصر» و «النهضة إرادة شعب» إلى «النهضة إبادة شعب» أو «النهضة طلعت فنكوش». ومع تحول الليمون إلى حنظل وثبوت أن «النهضة فنكوش»، تلونت سخرية المصريين بلون الحكام الجدد. وانقسمت النكتة السياسية إلى قسمين: الأول «إخواني»/سلفي والثاني ليبرالي/شعبي، فقوبلت التصريحات الصيفية التي أطلقها رئيس الوزراء هشام قنديل عن ترشيد الكهرباء عبر ارتداء الملابس القطنية والتكدس في غرفة واحدة والعودة إلى المروحة بديلاً من التكييف، قيل إن «إخوانياً» انبرى من بين الصفوف المدافعة عن الترشيد مؤكداً أن بين مميزات انقطاع التيار والغرق في بحر الظلمات تذكر عذاب القبر. فرد عليه ليبرالي مقترحاً أنه في حال أراد «الإخوان» تذكر عذاب القبر، فيمكن إعادة جهاز أمن الدولة لهم على أن تنعم بقية المصريين بالتيار. وقيل إن «إخوانياً» عثر على مصباح علاء الدين، وبخروج العفريت سأله السؤال المعتاد: «شبيك لبيك تأمر بإيه؟» فطلب «الإخواني» جسراً يربط مصر بأميركا، فاعتذر العفريت لصعوبة الجسر. فطلب أن يحب المصريون «الإخوان» ويعيدوا انتخابهم، ففزع العفريت، وسأله: «عاوز الجسر اتجاه واحد ولا رايح جاي (اتجاهين)؟». ويبدو أن تعدد الاتجاهات بات سمة مصر في 2012، فقرارات الرئيس مرسي التي يصدرها ثم يعود فيها تثير حفيظة المنكتين بقدر ما أثارت سخريتهم. أنصار التفكير الطبي اقترحوا ضرورة أن يستلقي على ظهره شهرين حتي يثبت القرار. أما أنصار الرئيس فطالبوا بأن يصدر قبل سفره مجموعة قرارات وعكسها إلى حين عودته. وبعيداً من القرارات، فإن الجو العام في مصر لا يخلو من روحانيات هبطت عليه في ضوء حكم «الإخوان» وما قد يتلوهم من حكم السلفيين. لاحظ أحدهم على «فايسبوك» أن «خط تصدير الغاز (في سيناء) تم تفجيره 35 مرة قبل وصول الإخوان إلى الحكم ولم يتعرض لأذى مرة واحدة بعد وصولهم. لا تخرج قبل أن تقول سبحان الله». وحتى يكون تأريخ السخرية المصرية على مدار عام مضى متوازناً، فإن المنتمين إلى تيار الإسلام السياسي ينكتون كذلك، أحياناً، وإن كانت نكاتهم تبدو غارقة في التفاصيل، ما يفقدها جانباً من رونقها. وفي ما يأتي نكتة «إخوانية»: «مرة واحد إخواني دخل الانتخابات نجح. قالوا بسبب الشعارات الدينية، سقط، قالوا: خاين أنه دخل الانتخابات أصلاً. قاطع الانتخابات قالوا: شفتم رغم أنه يتكلم عن الايجابية والمشاركة. دخل بغالبية، قالوا: يريد أن يستحوذ على المقاعد وتبقى دولة دينية. دخل بثلث المقاعد قالوا: عشان حق الفيتو. دخل بأقلية، قالوا: هل رأيتم؟ هذا هو حجمهم الحقيقي. ترك البلد واستقل طائرة، فقالوا: خربوا البلد وتركوها خراباً». ويلوح بعض الخبثاء إلى أنه، وبغض النظر عن خفة دم النكتة أو ثقله، إلا أن أهميتها مستمدة من صدقيتها وقدرتها على تحليل الماضي وقراءة الحاضر واستشراف المستقبل. لكن ما نملكه هو تحليل الواقع. والتحليل الأحدث والأكثر واقعية عن مصر وحال المصريين على مدار عام تلى الثورة هو: «ناس دخلوا محل سمك، وطلبوا كباب وكفتة، فجاءت صينية مسقعة، والخنافة الآن حول عدم وضع الزبيب في الأرز باللبن». وإلى أن يحسم المصريون أمرهم في شأن السمك الذي تحول كباباً وكفتة ثم انقلب مسقعة أثارت الاستهجان لعدم وضع الزبيب في الرز باللبن، يتوقع أن يستقبلوا العام الجديد بموجات ساخرة متفردة وإسقاطات مريرة ملونة بلون الضحك على حالهم، مع استمرار «الإخوان» في سن الخطط ووضع السياسات بغرض التمكين من روح الدعابة لدى المصريين، لكن المثل الشعبي يقول «كان غيرهم أشطر».