أعضاء هيئة كبار العلماء، وإن كانوا مثلما توحي «التسمية» ليسوا كل العلماء السعوديين، إلا أن تأثيرهم على مرّ التاريخ السعودي كان الأقوى، حتى وإن بدا صوت بعض الفقهاء والدعاة غير المنتمين ل«الهيئة» في بعض الأحيان أكثر ضجيجاً. حتى إن الكاتب السعودي عبدالعزيز الخضر، الذي أرّخ للعقود الماضية من الحراك السعودي، في كتابه «السعودية... سيرة دولة ومجتمع»، وثق أن «الفتاوى السائدة والمتداولة دائماً كانت من علماء المؤسسة الدينية التقليدية الرسمية، ولم توجد فتوى منتشرة على نطاق واسع في المجتمع والأماكن العامة ليست من كبار العلماء أو من المؤسسة الرسمية»! الفاعلية الدينية التي تحدث عنها الخضر، يفترض أن تشهد تطوراً بعد الأمر الملكي الذي قصر الفتوى في أعضاء هيئة كبار العلماء في 12 آب (أغسطس) 2010، خصوصاً تلك المتعلقة بقضايا مركزية مثل الجهاد، والتكفير، وقضايا الحرب والسلم، خارج الحدود، إلا أن ازدهار وسائل التواصل الاجتماعي، وتراجع هيمنة الإعلام المرخص الحكومي منه والخاص، ربما لم يعط للقرار الملكي حظه المأمول سعودياً من «النجاعة»، ما جعل النقاش يحتد مجدداً حول فتاوى لدعاة يحرضون على الجهاد في سورية. وكان الأمر الذي جاء أشبه ما يكون برد الاعتبار للمؤسسة الدينية الرسمية، وسط موجة ما كان يسمى الربيع العربي، آنذاك، شدد على أن الشأن الديني لا مجال فيه للتباهي، وترك الحبل على الغارب. وقال خادم الحرمين الشريفين نصاً: «رصدنا تجاوزات لا يمكن أن نسمح بها، ومن واجبنا الشرعي الوقوف إزاءها بقوة وحزم؛ حفظاً للدين، وهو أعز ما نملك، ورعاية لوحدة الكلمة، وحسماً لمادة الشر، التي إن لم ندرك خطورتها عادت بالمزيد، ولا أضر على البلاد والعباد من التجرؤ على الكتاب والسنة، وذلك بانتحال صفة أهل العلم، والتصدر للفتوى، ودين الله ليس محلاً للتباهي، ومطامع الدنيا (...) ولئن كان عصرنا هو عصر المؤسسات لتنظيم شؤون الدنيا في إطار المصالح المرسلة، فالدين أولى وأحرى في إطار مصالحه المعتبرة». البيان الملكي استعرض حيثيات عدة، لكن يجمعها «تجاوز المؤسسات الدينية التي أنشأتها الدولة»، إن بالفتوى أو الخطبة أو الاحتساب، ولذلك جاءت النتيجة موجهة إلى المفتي بالقول: «نرغب إلى سماحتكم قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء، والرفع لنا عمن تجدون فيهم الكفاية والأهلية التامة للاضطلاع بمهام الفتوى للإذن لهم بذلك». . ومع أن كبار العلماء والدعاة الرسميين قرأوا هذا البيان على أنه انتصار لهم في ذلك الوقت، إلا أنهم أدركوا أيضاً أنه يلقي عليهم مزيداً من العبء في تفعيل مؤسساتهم. ولذلك عيّنت «رئاسة الإفتاء» بعد ذلك مفتين لها في مناطق رئيسة مثل (مكةالمكرمة، والمدينة المنورة، والشرقية، والجنوبية، ونجران). كما شهدت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تغييرات عدة، ووزارة الشؤون الإسلامية ضبطاً أكثر حزما لمنابرها ودعاتها. إعادة الاعتبار للمؤسسة الدينية الرسمية يراها عدد من المفكرين مثل اللبناني رضوان السيد، الحل الأمثل في الحقبة الراهنة التي تشهد تمزيقاً للإسلام السني على أيدي طوائف غالية منتمية إليه مثل الجهاديين، وطوائف أخرى غير سنية، مثل حزب الله. ويقول في سياق نقده للتطاول على الإسلام السني تحت ذريعة نقد التراث الديني: «إن نقد الموروث الديني والتقليد في الحياة العربية يصب في مصلحة التيارات السلفية الجهادية والإخوانية» وبناء عليه، يدعو الدكتور رضوان إلى وقف استهداف الموروث الديني، الذي يغذي وجود التيارات الجهادية والإخوانية، ويمنحها القدرة على الاستمرار، في مقابل استدعاء التقليد ومنحه شرعية النفوذ في الواقع، وأهم عناصر التقليد التي يراهن عليها لتفكيك نسق الحركة الإسلامية، وسلبها الشرعية الأخلاقية: «إعادة الاعتبار للمؤسسة الدينية التقليدية، وتعزيز أدوارها (العبادة والفتوى والإرشاد)، وتنظيف الساحة من كل العناصر التي تشوش عليها أو تشاركها الوظيفة، سواء في المجال السني أم الشيعي (ولاية الفقيه)، ووقف تحوير المفاهيم الإسلامية التي مارسها الإخوان والسلفيون». وإذا كان دور المؤسسة الدينية في عدد من البلدان العربية والإسلامية، هامشياً قبل موجة «الإرهاب»، وما سمي الربيع العربي، فإن هيئة كبار العلماء التي تقع في قمة الهرم الديني في السعودية ارتبطت فاعليتها بكل المفاصل التاريخية في البلاد. ويعتبر الكاتب السعودي خالد الدخيل، ذلك من الخصائص التي يمكن الاعتراف بها للتجربة الدينية السعودية، غير أنه يفسر التأثير السابق للمؤسسة، بأنه جاء بسبب غياب كيانات ثقافية منافسة، إذ كان «المطوع» هو المثقف والفقيه والواعظ وجليس الأمير. ويلمح إلى أن الدولة التي أعلت من شأن المؤسسة الدينية بادئ الأمر، لم تعد الآن في حاجتها مثل السابق، بفضل تعمق مفهوم البناء المؤسسي للدولة. لكن أحد الباحثين في التاريخ السعودي الدكتور عبدالعزيز الثنيان، يعتقد أن الأسرة السعودية الحاكمة، إضافة إلى اعتزازها بمرجعيتها الدينية، هي أيضاً على قناعة بأن شعبها «متدين»، وأن «لا غنى عن إعطاء المكانة اللائقة لعالم الدين، الذي اعتاد الناس أن يرجعوا إليه في دقائق حياتهم، وهو ما دفع الملك أخيراً إلى حفز العلماء ليقوموا بدورهم المنتظر». ويروي في ذلك قصة لصديق له، رفضت زوجته أكل اللحم في البلاد غير الإسلامية، حتى نقل لها فتوى ابن باز بذلك. مشيراً إلى أن «التركيبة السعودية الاجتماعية هي كذلك، ولا فرق في ذلك بين المتدين (الملتحي) أو الشخص العادي (الحليق)، والمرأة والرجل». ويبرز التعلق الاجتماعي بالمشايخ أكثر، ما أسفر عنه تقرير صادر أخيراً عن مكتب المفتي العام الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، كشف عن تلقي «الإفتاء» نحو 2000 مكالمة هاتفية يومياً! وأن آل الشيخ نفسه أصدر نحو أربعة آلاف فتوى طلاق في عام واحد، ما دفع مجلس الشورى في البلاد قبل بضع سنين إلى التوصية بفتح مكاتب للرئاسة، واستحداث وظائف فيها بعد أن توقفت المؤسسة المركزية عن النمو وظيفياً ل10 سنين، قبل هذا التدخل بسبب الموازنة المالية. لكن التيار الآخر، الذي يمكن تسميته ليبرالياً أو يسارياً، ينظر إلى المكانة الاجتماعية لعالم الدين في السعودية بنوع من «المبالغة»، أو المؤامرة أحياناً، فتؤكد دراسة صادرة عن مركز المسبار للدراسات، حول «طبيعة الفتوى والإفتاء في السعودية»، أن الكم الهائل من الفتاوى التي يتلقاها المشايخ في السعودية يكشف مدى «سهولة السطوة على مجتمع تحركه الفتاوى، ولكن الفتاوى نفسها أيضاً تعبير عن حال من التوحيد الشمولي للعقل الاجتماعي». لكن كاتب الدراسة طريف السليطي أقر هو الآخر بأن «مثل هذه المكانة العليا فوق أكتاف المجتمع، لم تنلها النخبة الدينية على طبق من ذهب، بل هي باختصار نتاج لقرون طويلة من القتال والجهاد ببعديه: المادي العسكري، والفكري الإفتائي». ويوثق الباحث أن فتاوى الشيخ بن باز وحده وصلت لقرابة 11 ألف فتوى، إلا أنه يعتبر الرقم وإن كان مثيراً للدهشة، إلا أنه كما يقول «لا غرابة في الموضوع لمن أدرك أن حياة الفرد السعودي تتعلق بشكل كامل بهذه الفتاوى، وأن مئات الآلاف من الفتاوى أنتجها الشيوخ لمصلحة الملايين من الأفراد في البلاد». ومع إشارة الباحث إلى برنامج «نور على الدرب»، (يذاع على موجات إذاعة القرآن السعودية منذ عقود)، كنموذج لتلقائية تلك التساؤلات من المجتمع، إلا أنه يتقاطع مع الخضر في التساؤل عن «خطورة ولوج الفتوى في كل تفاصيل الحياة الشخصية للأفراد». فيما يضيف الخضر: «مع أن أصحاب المدرسة التقليدية، لديهم حذر واضح في الشأن السياسي وتجنب المواضيع التي تتناولها، أو قد تثير فتنة في رأيهم، وهو تصرف قد يبدو حكيماً، لكن أين هذه الحكمة من الفتاوى التي تثير مشكلات اجتماعية، وأسرية وتربوية؟ أليس للفرد حق في المراعاة لهذه الجوانب أيضاً؟». ويشبه الباحث السليطي تأثير علماء الدين في الجانب المعنوي سعودياً بتأثير النفط في الجانب الاقتصادي! ويخلص إلى أن تأثير الفتاوى الذي وصفه ب«الجسيم» ليس وقتياً، بل سيمتد إلى «قرون طويلة بالنظر لتباطؤ عمليات التغيير الإنساني للمجتمعات، وكون هذه الفتاوى المعاصرة تستند في حد ذاتها على إرث قديم ومتراكم أشبه ما يكون بالأهرامات، التي لا تتساقط حجارتها بمرور الزمن، بل تزداد ثمناً وقدسية». ويعلق باحثون بقاء مكانة الفتوى الذي أشار إليه السليطي بمواكبتها للتطور الاجتماعي والتنموي، ملاحظين أن فتاوى صدرت في حق «الدش، وطاش ما طاش، وهوية المرأة، والبنوك، والكاشيرة» مثلاً، «لكن لأنها جاءت في سياق مختلف، لم يتقيد بها الكثيرون، كما لم تُلزم بها السلطة التنفيذية الجماهير».