في العام 2006، أفادت «منظمة الصحة العالمية» بأن ستة ملايين عراقي يعانون أمراضاً نفسية، منهم 300 ألف يعانون الفُصام («شيزوفرينيا» Schizophrenia). ونبّهت المنظّمة حينها، إلى أن هؤلاء المرضى يحتاجون رعاية عاجلة وخاصة. بدا ذلك خبراً مخيفاً للعراقيين، خصوصاً أن عزوف عدد كبير منهم عن العلاج ومراجعة المستشفيات الخاصة، يعطي انطباعاً سلبياً عن مستقبل السلامة الصحيّة للمجتمع. وبصورة عامة، يمتنع من يعانون اضطرابات نفسية-عقليّة في العراق، عن مراجعة الأطباء، لأنهم يرون في الأمر شيئاً مشيناً، ويفضّلون بقاء مرضهم سراً، خوفاً من النظرة الخاطئة السائدة اجتماعياً عن المرض النفسي-العقلي والاضطراب السلوكي. ولدى زيارة عيادة للأمراض العصبية-النفسية، حتى في مدينة بغداد، غالباً ما تكون صالة الانتظار خالية من المراجعين. الاضطراب النفسي مرفوض في لقاء مع «الحياة»، أوضحت فيان جورج، وهي مساعدة في عيادة خاصة للأمراض النفسية، أن طبيب العيادة يفكر في إغلاقها، «لأن الغالبية الساحقة لا تتقبل فكرة مراجعة عيادة للأمراض النفسيّة». وتناول الاختصاصي في الطب النفسي الدكتور باهر محمد (62 عاماً) الأمر نفسه، وقال: «العراقيون يرون أن المرض النفسي يشكّل عيباً، وكأنما للقول بأن الهلوسة وانفصام الشخصية وغيرها لا تجعل المرء مريضاً، بل «مُداناً» بفقدان العقل، وفقاً لتقاليد المجتمع وثقافته السائدة حاضراً». وفي لقاء استثنائي في عيادة للأمراض النفسيّة، أوضح المريض جواد عبد الأمير (32 عاماً) أنه تعرض لعصف سيارة مُلغّمة انفجرت قرب مطعم شعبي في منطقة الكرادة في العام 2009، ما أوقع أضراراً في بصره، وجروحاً عميقة في جبهته ويديه. وبعدها، صار يعاني أعراضاً نفسية لم ينجح في التخلّص منها حتى الآن. وأوضح عبد الامير، وهو مهندس متخصّص في البناء، أنه طُرِد من الشركة الخاصة التي كان يعمل فيها. وقال: «تراودني كوابيس في الليل». ويتناول مجموعة من الأدوية، التي يحصل على معظمها من عيادة الطبيب المشرف على علاجه، مع الإشارة إلى أن كثيراً من المرضى النفسيين يخجلون من صرف وصفة علاجهم، من الصيدليات العادية. وفي سياق متّصل، أوضح الدكتور عبد القادر سعيد، وهو خبير في مجال الصحة النفسية، أن المؤسّسة الصحيّة العراقية لم تهتم كثيراً بالمرض النفسي واقتصر نشاطها التمريضي على أساليب تقليدية. ومهما كان المرض، لا يحصل المصاب إلا على حفنة من المهدئات، وفي حالات كثيرة يتحوّل المصاب بالكآبة مثلاً، مدمناً للأدوية. ومع رداءة الرعاية النفسية، أعرب اختصاصيون عراقيون عن قناعتهم بأن المؤسسة الحكومية لم تطّور قدراتها في هذا الشأن، بل أهملته كثيراً، ولم تحتط لمواجهة ارتفاع عدد المرضى. وعلى رغم صدور «قانون الصحة النفسية العراقي» في العام 2005، الذي هدف إلى تأمين رعاية مناسبة للمُصابين باضطرابات نفسيّة، إلا أنه مازال حبراً على ورق، ولم يدخل حيّز التطبيق فعلياً. وتُصرّ وزارة الصحة على القول بأنها تهتم بالرعاية النفسية، لكن جهودها تصطدم بالبيروقراطية وقلّة المخصّصات المالية لهذا القطاع. في المقابل، رأى كثير من الأطباء أن النظام الصحي لا ينظر إليه بعين الاعتبار، عندما يتعلّق الأمر بالأمراض النفسية، بل يُنصح طلبة كلية الطب بعدم دراسة هذا التخصّص، الذي يوصف أيضاً بأنه «ترف أكاديمي». هذه الصورة تترجمها أرقام البنى التحتية للعلاج النفسي، إذ تفيد إحصاءات مختلفة، بأن العراق لا يحوي سوى ثلاثة مستشفيات نفسية، وهي «الرشاد»، و «ابن رشد» في بغداد، و»سوز» في السليمانية (شمال العراق). وتضمّ هذه المستشفيات 200 طبيب، يفترض أنهم يتكفّلون بعلاج نحو ستة ملايين مريض! شعب محبط في حزيران (يونيو) الماضي، أعدّ معهد «غالوب» المتخصّص بدراسات الرأي العام، لائحة بالشعوب الأكثر إحباطاً. واحتل العراق موقع «الصدارة» متقدّماً على 148 بلداً. وأفادت اللائحة بأن العراقيين يلازمهم شعور بالسلبية في حياتهم اليومية. وبعد شهرين من صدور هذه اللائحة، أكّدت وزارة الصحة في بيان رسمي، أن عيادات الأمراض النفسية ومستشفياتها، تستقبل شهرياً 10 آلاف مريض. وفي السياق عينه، أوضح مستشار الصحة النفسية عماد عبد الرزاق، أن غالبية المرضى مصابون بالقلق والاكتئاب. وبحسب إحصاء غير رسمي، سجّلت دور الرعاية النفسية في العراق في العام 2011، قرابة 100 ألف إصابة بالاضطرابات النفسية-السلوكية. وأعرب الاختصاصي في الأمراض النفسية الدكتور عبد القادر سعيد، عن قناعته بأن أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً في المجتمع العراقي، تأتي من انتشار مشاعر الكآبة والقلق من المستقبل، وطغيان السلبية والسوداوية على مواقف الناس في الحياة العامة. وحاول سعيد الربط بين الظروف السياسية والاجتماعية من جهة، وأوضاع الصحة النفسية في العراق من جهة اخرى، عبر الحديث عن جملة من الانتكاسات التي تتالت على العراقيين في العقود الأخيرة، وكأنها سيل لا يكفّ عن الانهمار. وفي المقابل، لا يبدو أن ثمة رابطاً مباشراً بين الاستقرار الأمني وتفاقم المشاكل النفسية للعراقيين. إذ لم يعط العام 2012 الذي شهد استقراراً أمنياً نسبياً، دعماً لهذه الفكرة. وبيّنت إحصاءات وزارة الصحة العراقية، أن 120 ألف مريض راجعوا مستشفيات الأمراض النفسية ووحدات علاجها. وإذا كان الوضع الأمني ومشاهد العنف لا تشكّل عنصراً وحيداً في تفاقم الإصابات النفسية، فإن لدى أكاديميين عراقيين وجهة نظر تشدّد أيضاً على أن صعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية هي من أبرز أسباب تدهور الصحة النفسية. وتقاطع رأي غير طبيب وباحث اجتماعي، بأن أكثر الفئات العراقية تعرّضاً للأزمات النفسية هم النازحون والمهاجرون الذين ولّدتهم حروب أهلية متوالية، مع الإشارة إلى معاناة خاصة في صفوف الأسر التي فقدت أفراداً لها في أحداث عنف، إضافة إلى النساء والأطفال والعاطلين من العمل. الهروب إلى أوهام قاتلة في ظل غياب الحل المؤسساتي لأزمة تفشي الأمراض النفسية بين العراقيين، واصل بعض المصابين رفض العلاج، متذرّعاً بدواعٍ اجتماعية، وهو وضع تفرعت منه أزمات جديدة. في منطقة «الباب الشرقي»، وهي مركز تجاري ورمزي وسط العاصمة، يتخفى تجار المخدرات على هيئة عابري سبيل أو باعة جوالين. في المقابل، يبدو زبائن هؤلاء في أوضاع مزرية وغير طبيعية، فبعضهم يقطن العراء، في ظل غياب المأوى، وتدهور حال «العقل». يشتهر «محمد» بكنية «أبو البرد»، بسبب دأبه على ارتداء معاطف كثيرة حتى في عز الصيف. ويضع قدميه في حذاء له قاعدة سميكة، ويتجوّل في السوق حاملاً عدداً كبيراً من الأوراق والكتب. يقضي محمد النهار في «تسوّل» المخدّرات من التجّار. وثمة من يقول إن محمد أمضى 25 عاماً في سجون نظام صدام حسين وخرج مع الغزو الأميركي للعراق، لكن أحداً لا يعرف قصّته فعلياً. وفي كثير من الليالي، يفترش «أبو البرد» الرصيف، بعد تناول حبوب مخدرة، ثم يبدأ الصراخ والعويل.