يجلس الخمسيني عبد المجيد ساعات طويلة في غرفته في جبل الحسين وسط العاصمة عمان جاحظاً. يُخيّل للناظر اليه انه يمارس رياضة «اليوغا»، وعيناه بلا حراك، غير انه بمجرد ان تنتهي حالته هذه ينسى بماذا كان ينشغل. مرت سنوات طويلة على حالة عبدالمجيد. يعاني «اكتئاباً» شديداً على رغم كل زياراته لمن يسمون ب «الشيوخ» من أجل إنقاذه من الحال التي لازمته، منذ ان هجر بغداد، حيث تعرض لمشاهد الجثث والاشلاء التي تناثرت حوله عقب تفجير انتحاري استهدف مركزاً امنياً في أحد الاسواق المكتظة. فالحرب وويلاتها، وأصوات الانفجارات والرعب والخوف لا تزال تطارد عبدالمجيد منذ عودته من العراق إلى الأردن، طلباً للراحة والهدوء، حتى بات يعاني من «الاكتئاب المزمن». يقول عبدالمجيد الذي انقضى به العمر هو واخته التي تعاني من المرض نفسه، من دون ان يتزوجا بسبب فقدانهما للأهلية: «ثابرت على زيارة الشيوخ لعشر سنوات بسبب انخفاض تكاليف زيارتهم مقارنة بالطبيب النفسي الذي تتراوح تكلفة مراجعته بين 50 و 70 ديناراً». عبدالمجيد الذي قرر اخيراً زيارة الطبيب بعد ان اشتد عليه المرض، يجلس في قاعة الانتظار يراقب سكرتيرة الطبيب والمراجعين، ويكاد يفقد تصميمه على الدخول، كلما رأى ورقة الخمسين ديناراً تخرج من جيب مريض، إلاّ ان اشتداد مرضه سرعان ما يبقيه، في رغبة كبيرة منه للتخلص من المرض. يحمل عبدالمجيد «كيساً» مليئاً من الأدوية، في كل مرة يخرج فيها من عند الطبيب، بكمية تبدو كبيرة إلى درجة المبالغة، فيقول «الأدوية لي ولأختي، لا داعي لأن تأتي الطبيب يعرف حالتها». ويوضح: «غالباً ما ينقطع دواء من السوق، ما يضطرني إلى تخزين أدوية معرّضة للفقدان بخاصة أني مسؤول عن أختي التي هجرها زوجها بسبب مرضها». يقدر أطباء ومختصون عدد الاردنيين الذين يعانون من اضطرابات نفسية بمليوني و750 ألف أردني، غالبيتهم الساحقة تعاني الاكتئاب والقلق، فيما يعاني 60 ألف أردني من الفصام العقلي، وهو الاخطر، ونسبته لا تتجاوز 1 في المئة من عدد السكان. ولا تختلف الحال كثيراً عند الثلاثينية انتصار التي تخضع للعلاج منذ أربع سنوات. ومثل عبدالمجيد، كانت تعاني اضطرابات عقلية، كما تقول، حاول أهلها معالجتها عن طريق «الشيوخ» و «الحجابين»، من دون جدوى، فأخبروها أن مرضها عضوي وعليها مراجعة الطبيب. كانت تعالج، بداية، عند طبيب مختص، لكن غلاء الكشفيات وارتفاع ثمن الأدوية ل «اكثر من 40 ديناراً شهرياً»، اضطرها للذهاب لعيادات عامة تصرف لها أدوية، في مغلف لا يُكتب عليه أية توضيحات عن كيفية الاستخدام أو غيره، مشيرة إلى أنها تتردد على العيادة بين فترة وأخرى. لا يزال قطاع خدمات الصحة النفسية في الأردن، يعاني إهمالاً شديداً، فيما يتفق مواطنون مع متخصصين على أن ارتفاع أجور وكلفة العلاج النفسي في القطاع الخاص، وارتفاع أسعار الأدوية النفسية، إضافة إلى تراجع مستوى خدمات الصحة النفسية في القطاع العام، تترك آلاف المرضى النفسيين في الأردن من دون علاج، أو بعلاج الحد الأدنى، ما يشير إلى وجود مشكلة حقيقية. وتترسخ أزمة العلاج النفسي في الأردن، كما في غيرها من دول عربية، جراء انتشار ثقافة شعبية لا تسلّم بحقيقة الأمراض النفسية، حيث تختلط بثقافة مشوهة، مع مفاهيم العين والحسد والسحر والشعوذة. وكانت دراسة، أعدها أكاديميون واختصاصيون نفسيون وأعلنت نتائجها بداية العام الحالي، خلُصت إلى أن طبيباً نفسياً واحداً يتوافر لكل 100 ألف نسمة في الأردن. وهو ما دفع منظمة الصحة العالمية، إلى دعوة وزارة الصحة لتذليل الصعوبات التي تواجه مشروع الصحة النفسية، وتبني البرنامج المدعوم من قبل المنظمة، خشية انهياره في حال لم تتبنه الحكومة ما يعني ضياع الجهود المبذولة. ويرى أطباء ومهتمون بهذا المجال أن «إهمال» الصحة النفسية في القطاع العام، وتزايد كلفة العلاج النفسي في القطاع الخاص، والتي تصل بحسب التقديرات إلى ما بين 70 و80 ديناراً شهرياً، وغيرها من أسباب، تساهم أيضاً في دفع الكثير من المواطنين إلى اللجوء للعلاج بأساليب «الروحانيات والموروثات الدينية»، أو اللجوء إلى «العرّافين والمشعوذين». وكان الطبيب النفسي الدكتور وليد سرحان كشف في تصريحات سابقة عن وصول عدد الأطباء النفسيين المتمرسين في الأردن إلى 40 طبيباً، معتبراً أنه من أقل الأعداد في العالم. وأضاف انه في أي من البلاد التي تساوي الاردن بعدد السكان (حوالى 6 ملايين نسمة) يوجد ما لا يقل عن 1200 طبيب نفسي. وكانت منظمة الصحة العالمية، كشفت عام 2010 عن مراجعة 20 ألف مواطن أردني سنوياً عيادات الطب النفسي التابعة لوزارة الصحة، معربة عن قلقها من قلّة الأطباء النفسيين في المملكة والبالغ 70 طبيباً فقط، غير أن نقيب الأطباء الأردنيين أحمد العرموطي، يشير إلى أن العدد الفعلي للأطباء «أقل بكثير». ويُرجع العرموطي قلة عدد الأطباء إلى صعوبة شروط حصول الطبيب العام على الاختصاص، منها «لا يُقبل» من يقل عمره عن 36 عاماً في التخصص، فضلاً عن صعوبة التخصص بالطب النفسي، من حيث الاحتياج لدراسة معمقة واستعداد نفسي لدى المقبل عليه. وتتراوح تكلفة علاج المريض النفسي بين 70 و 80 ديناراً في اليوم، وأظهرت دراسة أن إجمالي عدد «الأسرّة» المخصصة لعلاج المرضى النفسيين في المملكة نحو 569 سريراً، منها 360 في المركز الوطني للصحة النفسية في الفحيص، و150 في مركز الكرامة، و43 في الخدمات الطبية الملكية، «مركز الرعاية النفسية»، إضافة إلى 70 سريراً في مستشفى الرشيد القطاع الخاص. وتنأى شركات التأمين بنفسها عن تغطية تكاليف الأمراض النفسية، ما يقلل استفادة المرضى من العلاج. وتكشف وزارة الصحة بلسان الناطق الاعلامي باسمها حاتم الازرعي، أن 5 في المئة من الأردنيين قادرون على تلقي العلاج النفسي من خلال الأختصاصيين النفسيين والمستشفيات، بينما 75 إلى 80 في المئة يفقدون فرصة العلاج، ما يؤدي إلى تفاقم حالتهم لتتحول إلى أمراض عضوية مزمنة.