من النادر أن يشاهد مراجعو العيادات الطبية في بغداد لوحة أو إثنتين لأطباء العلاج النفسي بين مئات اللوحات المعلقة في الشوارع التي يمرون فيها والتي تحمل أسماء الأطباء واختصاصاتهم. فندرة هؤلاء الأطباء ترتبط تماماً بندرة المعترفين بالأمراض النفسية في بلاد تضم عدداً من هؤلاء المرضى. واللجوء إلى الطبيب النفسي في العراق، اعتراف رسمي بالجنون لو كان من اتخذ قرار مراجعة الطبيب لا يحتاج إلاّ الى شخص يستمع إليه، أما الطبيب ذاته فهو مجنون في شكل رسمي في نظر كثيرين ممّن يسمعون بوجود طبيب كهذا وحتى زملاء المهنة يتندرون على الأطباء النفسيين ويصفونهم ب «أطباء المجانين». ثقافة الطب النفسي هي ثقافة «العيب» في العراق الذي يضم أعداداً لا يستهان بها من المرضى النفسيين الذين يحتاجون الى العلاج، ومراجعة الطبيب النفسي تجرّ على صاحبها العار، فلا يتردد جاره أو قريبه في استثمار الفرصة عند أول خلاف يقع بينهما لإلصاق تهمة الجنون به. أول الإحصاءات الرسمية التي أجريت في العراق في هذا المجال، قامت به منظمة الصحة العالمية عام 2006، وأشارت إلى أن أكثر من 18 في المئة من السكان يعانون مشكلات وأمراضاً نفسية وهذا يعني أن أكثر من خمسة ملايين عراقي يشكون من تلك الأمراض. المستشفيات النفسية هي الأخرى نادرة، ففي بغداد هناك مستشفيان فقط هما «الرشاد» و «إبن رشد»، أما المحافظات والمدن الأخرى في الوسط والجنوب فخلت تماماً من أي مستشفى خاص بالعلاج النفسي باستثناء مستشفى واحد في إقليم كردستان شمال العراق. ولأن مراجعة الطبيب النفسي «عار جسيم» يقوم كثيرون ممن يعانون من الأمراض النفسية بمراجعة هؤلاء الأطباء في الخفاء أو يذهبون إلى بيوتهم في حال كانت تربطهم بهم صلة قرابة أو معرفة. ويشعر آخرون بالحياء من مراجعة الطبيب النفسي، فيلجأون الى العرافات وقارئات الفنجان للاستدلال الى «العلة» التي يعانون منها والتي عصت على طبيب الأمراض الجسدية، واللافت أنهم لا يشعرون بالخجل ذاته من التصريح بذلك حتى لو كانوا من حاملي الشهادات الجامعية العليا. فتلك الشهادات تقف عاجزة أمام عقل العرافات اللواتي لا تجيد كثيرات منهن القراءة والكتابة لكنهن يجيدن فن النصب على من يعانون أمراضاً نفسية. طبيعة الحياة في العراق والضغوط التي يعاني منها العراقيون في شكل عام في العمل والحياة تجعل ادعاءات العرافات قابلة للتصديق، لكن ما إن يتجرأ أحد الأصدقاء أو المعارف أو الاشقاء على تقديم النصيحة للمريض بمراجعة طبيب نفسي حتى يرن صوته في أذن الناصح بعبارة «وهل أنا مجنون؟». الطبيب النفسي شخص يرتبط وجوده وحياته وعمله بوجود «المجانين»، ومن يمكن أن «يعترف بالجنون»، ولذلك فالعراقيون لا يعرفون الكثير عن الأطباء النفسيين ولا عن أدويتهم أو عياداتهم التي تختفي لوحاتها الصغيرة الخجولة بين مئات وآلاف اللوحات المنتشرة في الشوارع الطبية في الكرادة والباب الشرقي والكاظمية وبغداد الجديدة وغيرها.