وفاء للتقليد المرسخ في السنوات السابقة، عُقدت الدورة الثانية عشرة لمهرجان مراكش السينمائي تحت شعار تأكيد أساسية حضور الفيلم واعتباره الحلقة الكبرى والأساسية في كل احتفاء بالسينما. هكذا، تم اختيار خمسة عشر فيلماً في المسابقة الرسمية تميّز جلّها بكونه عملاً أول أو ثانياً لمخرجيها، الشيء الذي جعل المهرجانيّين والجمهور يقفون على اهتمامات المخرجين المعاصرين من كل بلد مختار. ولقد لوحظ في شكل عام أن الأفلام، في غالبيتها، أعمال يسود فيها المنحى الضبابي الذي يرافق مواضيع قاسية يوجد فيها الإنسان في مواجهة مصير فوق القدرة على التحمل نتيجة تربية، تاريخ سابق، ظروف حياة مؤلمة، فقر، حرمان، بؤس عيش أو تسلط. البحث عن معنى ولعل خير مثال على هذا، الفيلم الألماني الجميل «ياولد» للشاب يان أول جيرسر، المصور بالأبيض والأسود والذي يحكي قصة شاب حائر في مدينة برلين العملاقة الحزينة، قطع علاقته مع العائلة والصديقة والعمل، وتاه في الفضاء المديني بحثاً عن المعنى، الذي يجده عند كهل يحمل في ذاته ثقل التربية النازية التي لا تزال تؤثر عميقاً بآثارها. إنه فيلم جارموشي - نسبة إلى أسلوب المخرج الأميركي الطليعي جيم جارموش - يذكر بتيار الموجة الجديدة. في المنحى ذاته يقدم الفيلم الإيراني «طابور» الحائز على جازة لجنة التحكيم مناصفة وهو للشاب وحيد فاكيليفار، شخصاً تزداد حرارة جسمه بفعل المؤثرات الكهرومغناطيسية الخارجية، فيقرّر ارتداء لباس من الألومينيوم، ولا يخرج إلا ليلاً كي يمارس عمله المخصّص بقتل الصراصير في المباني السكنية. ولا تخفى الرمزية القوية لهذا الشريط العجائبي والوجودي في الوقت ذاته. وهذا المعطى الأخير هو ما يميّز الفيلم التشيخي «براعم الزهور»، حيث فضاء ثلج ناء يعرف صراعاً داخلياً من أجل إنقاذ الذات. أما الشريط الكندي «الشاحنة» فهو رواية حادث سير تسبب في قتل شخص، ما جعل السائق يقرر التوقف عن القيادة وإعادة النظر كلياً في حياته ومحاولة ترميم علاقاته مع عائلته كسبيل للتكفير عن الذنب. هذه الثيمة نفسها يتطرق إليها شريط «رحلة صيد» حيث يعيد رجل حياته في مكان قفر يؤبد الإحساس بالعزلة وأيضاً بالأمل. بقية الأفلام المشاركة تضمّنت مواضيع أخرى لا تقل سواداً في منحاها العام: الهندي «هوية» حيث الموت ينازع فضول المعرفة للمجهول المريح للضمير، الإستوني «جمع الفطر» الذي حصلت بطلته الرئيسة إلينا رينولد على جائزة أحسن دور نسائي، تدور أحداثه في ليلة طويلة يجد فيها ثلاثة أشخاص أنفسهم وسط وضعيات غير متوقعة تشتمّ منها رائحة السخرية اللاذعة لنفاق العصر إعلامياً واجتماعياً وسياسياً. أما الفيلم الدنماركي «اختطاف» فاختار سرد واقعة اختطاف رجل أوروبي من طرف القراصنة الصوماليين ومن الواضح أن هذا الفيلم، وبفضل العنف المصوّر بدقة وحميمية كان من نصيبه أن حاز على جائزتين، الأولى لأحسن دور رجالي للبطل سورين مالين، والثانية جائزة لجنة التحكيم مناصفة. تجديدات عربية الأفلام العربية المشاركة يأتي على رأسها الفيلم اللبناني «الهجوم» لزياد الدويري، والذي حاز باقتدار وبإجماع على الجائزة الكبرى أي النجمة الذهبية للمهرجان. ويتميز هذا الفيلم بالجرأة في الطرح، والاقتصاد حدّ ملامسة الدواخل بقوة وعنف. وهو ملأ العين بصور غير معهودة للصراع الفلسطيني، العربي - الإسرائيلي. و «الهجوم» مأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته للكاتب الجزائري الشهير والمغضوب عليه ياسمينة خضرة (أو محمد مولسهول باسمه الحقيقي). تمكن الشريط من نقل معاناة عرب 48 في شخص علاقة حب زوجية بين طبيب جراح ناجح وزوجته داخل إسرئيل، حيث تم اندماجهما وانخراطهما في المجتمع هناك. غير أن ذلك «الاندماج» لم يمنع الزوجة من أن تقدم على تنفيذ عملية انتحارية في باص يحمل أطفالاً. وكما يمكننا أن نتوقع فإن هذا الأمر، إذ انكشف، كان لا بد له من أن يهز كيان الزوج وبالتالي منحنا الشريط فرصة الرحلة في دواخل الخطوط الفاصلة ما بين المقاومة، والعيش الحر الكريم، والحرب والسلام، والاختلافات بين الإسرائيليين والفلسطينيين على طرفي الحدود. الفيلمان المغربيان المشاركان كان أولهما، «يا خيل الله» لنبيل عيوش، الذي يتناول حياة انتحاريي أحداث ماي 2003 التي هزت مدينة الدارالبيضاء، والتي راح ضحيتها أكثر من أربعين شخص. والفيلم مقتبس من عمل أدبي هو رواية بالعنوان نفسه لماحي بنبين، أما الموضوع فيعود إلى طفولة الانتحاريين في حي قصديري لا تتوافر فيه مقومات العيش الكريم، ثم يُعرج على تجنيدهم من طرف مجموعات متطرفة ترتدي الزي الأفغاني. الجزء الأول من الشريط تميز بواقعية كبيرة ودقيقة متقنة، لكن الفيلم حالما تناول فترة التجنيد النظري والاستعداد للعملية، سقط في روتينية وملامسة طرح لم يخرج عن المعروف إعلامياً، الشيء الذي حدّ من ألقه. الشريط المغربي الآخر هو «زيرو» لنور الدين الخماري ويعرض لأول مرة. وهو شريط يروي قصة مفتش شرطة مغضوب عليه يحاول إنقاذ فتاة من براثن عصابة دعارة يحرسها عميد شركة هو رئيسه المباشر. ومثل شريط الخماري السابق «كازانيكرا» يعج هذا الفيلم الجديد بالكثير من عنف الكلام الشارعي والوقح كما هي عليه حال الشوراع في مدينة - غول هي الدارالبيضاء التي بدت هنا سوداء متسخة ومأوى للجريمة والدعارة وصعوبة العيش. في اختصار من الجليّ أن هذا العمل يشبه إلى حد كبير أفلاماً من النوع ذاته اعتدنا على مشاهدتها في السينما الهوليوودية الشائعة. وقد كانت لجنة التحكيم رزينة وموفقة في اختياراتها، يتزعهما المخرج البريطاني المخضرم جون بورمان وعضوية ممثلين كبار ومخرجين من إيطاليا وفرنسا وكوريا الجنوبية والهند. كما ترأس لجنة تحكيم أفلام المدارس القصيرة المخرج الفرنسي المعروف بونوا جاكو. وتبقى أبرز فقرات المهرجان هي التكريمات، وخصت هذا العام المخرج الأميركي جوناثان ديمي صاحب الشريط الشهير «صمت الحملان» الذي اعتبر مراكش «خشبة عرض السينما الجديدة في العالم»، والمخرج الصيني البارع زهانغ إيمو الذي تسلم نجمة المهرجان من يد المخرج البارع الآخر إمير كوستوريكا، وقد أبديا سعادتهما بالوجود في مراكش ضمن كوكبة مهمة من المبدعين والنجوم العالميين. واحتفى المهرجان هذه السنة بالسينما الهندية التي تحتفل هذه السنة بالذكرى المئوية لولادتها، وحضرت لهذا الغرض نخبة كبيرة من النجوم الهنود إلى جانب مخرجين ومنتجين، وهو عدد لم يجتمع قط في بلد خارج الهند حتى اليوم. ولقد تقدمهم النجم الشهير شاروخان والنجم أميتاب بتشان، وهذان لقيا حفاوة كبيرة من لدن الجماهير الشبابية المحبة في المغرب للسينما الهندية، ولا سيما خلال وجودهما في ساحة جامع لفنا الشهيرة، الأمر الذي أثار اهتمام كثيرين.