كتب هاشم صالح في صحيفة «الشرق الأوسط»، بتاريخ 27 - 11 - 2012، مقالاً بدا لي أنه قصيدة رثاءٍ أخيرة للتنوير الذي وصفه بالمستحيل في وسم مقاله، يفتتح هاشم صالح مقاله ب: «ينبغي أن نعترف بالحقيقة: لا مجال لنجاح التنوير في العالم العربي، بل والإسلامي كله، في المدى المنظور، كنا نعتقد أنه يكفي أن نؤلف كتابين أو ثلاثة لكي نصبح في مصاف الشعوب المتقدمة». هكذا يفتتح المقال بخاتمته التي كان من المفترض أن تكون نتيجةً يصل لها الكاتب عبر مقدماتٍ منطقية، فكتابان أو ثلاثة وسنكون في مصاف الشعوب المتقدمة، كما يقول، بكل سهولة تمارس هذه المقالة استقطاباً حاداً وإقصاءً متعمداً، وتفترض في المجتمعات العربية أن تتعامل مع واقعها بعصا سحرية تسهم في تحويلها لبلدان ديموقراطية بين عشية وضحاها، أو بقراءة كتاب أو كتابين! ربما ظرف اللحظة المأسوية التي يتصورها الكاتب للتنوير في واقعٍ لم يعُد للتنوير الذي ينشده الكاتب جدارٌ يستند عليه، وهذا ما بدا جلياً في قوله في المقالة ذاتها: «أليس مفجعاً أنه بعد قرنين من محاولة النهوض وتراكم الإنجازات الفنية والتعليمية والفلسفية فإن الانتخابات المصرية أعطت الغالبية الكاسحة للإخوان والسلفيين؟»، واكتفي هنا بالنقل عن مقالته، إذ إن مقالتي اليوم لا تهدف إلى تفكيك الأفكار التي تضمنتها مقالة الكاتب هاشم، التي لا تعدو أن تكون أنموذجاً مكرراً لإقحام السياسة في الدين والأيديولوجيا من كثير من النخب الفكرية والدينية، لكنّ مقالتي اليوم تهدف إلى رصد التحولات التي تشهدها الساحة المصرية هذه الأيام، مقارنةً بما بات يُكتب ويتداول على نطاق واسع داخل الإعلام العربي. لم يستطع بعض «المثقفين العرب» ممن يتصلون بالفكر القومي والعلماني التسليم بالحال الديموقراطية التي دفعت التيارات الإسلامية للحكم، على رغم أن «الربيع العربي» أثبت قرب التيارات الإسلامية من الشارع العربي، ومقاربتها لهمومه ومشكلاته والتزامها بهويته وخلفيته التاريخية، في الوقت الذي ظهرت فيه القوى غير الإسلامية في غربة تامة عن واقع المجتمعات العربية، وهذا ما يظهر في ما تسكت عنه مقالة الأخ هاشم، بأن التنوير العربي لم يقنع الشارع العربي بالتصويت له وانتخابه! أما وقد انتصرت صناديق الاقتراع للإخوان والسلفيين في مصر، فإن المفترض على المثقفين العرب التعامل مع التيارات الإسلامية وفق قواعد اللعبة الديموقراطية وأساليبها، لاسيما وهم يؤمنون بالديموقراطية والعمل السياسي، فكان من الجدير بهم أن يلتزموا التعامل مع الواقع الجديد وفق معطياته وظروفه الجديدة من دون استدعاء لخلافات الأمس ومشكلاته، إضافة إلى الالتزام بالهدف القومي ومصلحة الشعوب بشكل عام، وهذا ما لم يكن لاسيما في الحال المصرية التي تصل هذه الأيام إلى مرحلة حرجة من تاريخ ثورتها. الإشكالية الكبيرة التي تأزمت معها أحداث «مصر» الأخيرة وما يصاحبها من تحليلات وتظاهرات، سواءً كانت مع أو ضد قرارات مرسي، أنها تخلط بين العامل الديني والأيديولوجي، وبين العامل السياسي وبين الخلافات الأيديولجية والدينية، وبين الحراك السياسي والمعارضة الحضارية، فالإعلان الرئاسي الصادر عن «مرسي» ينبغي أن يُقرأ في إطاره السياسي فقط، وهذا ما لم يحدث، مع الأسف، فالإعلان الرئاسي الموقت لا يُعطي الرئيس الحرية في تمديد فترته الرئاسية، أو تحصين قراراته للأبد، ولم أقرأ فيه ما يمكن أن يكرس تغوّل الإخوان أو السلفيين في السلطة السياسية، أو إلزام الشعب بأيديولوجية معينة. ما يمكن رصده بوضوح في ممارسات وخطابات المتعاطفين مع الإعلان والمناهضين له من الطرفين، أنهم يصرون على إقحام العامل الديني في التحليل، وتبني المواقف، فالزج مثلاً بالشريعة أو الخلافات الدينية والأيديولوجية في هذه المرحلة سيعود بالأمور للوراء، ولن تقطف الثورة أكلها إذا ما استمر الفعل ورد الفعل يتعامل مع قضية النظام السياسي والديموقراطي على أساس أنه نقابات مهنية، أو مؤسسات مجتمعية تتقاتل عليها هذه الأيديولوجيات للظفر بها. إن الالتزام بالهمّ الوطني والهدف القومي الموحد بعدٌ ذو أهمية في هذه المرحلة من تاريخ مصر الحبيبة، فالنخب المصرية مطالبة بعدم الزج بالجماهير في معارك فكرية وأيديولوجية، ليس من الصحي وجودها على مستوى الحكم وإدارة البلاد والمعارضة، لاسيما في بلد لا يزال في خطواته الأولى لبناء دولته ومؤسساته ودستوره الجديد، فمثل هذه الخلافات لا يمكن تقبّلها إلا في دوائر حزبية ضيقة، أو تجمعات ثقافية وفكرية دنيا، أو على أقل تقدير في مجتمعات فرغت من مراحلها التأسيسية والانتقالية. المشهد المصري اليوم يعود إلى الملعب الأول بإقحام العامل الديني والأيديولوجي في الصراع على السلطة، وهذا ما سوف يسهم في عرقلة مصر، أو تقزيم دورها الإقليمي في الفترة المقبلة، في الوقت الذي كان من المفترض أن تطلع فيه فجر الثورة المصرية بسلام، إن الأحزاب والتيارات المتراصة في الشوارع والميادين ينبغي عليها أن تقدم الصالح العام والهدف القومي لمستقبل مصر بعيداً من خلافاتها ومعاركها الفكرية والأيديولوجية، فالتوافق على دستور ووطن مشترك يجب أن تكون قضية أولية غير قابلةٍ للنزاع والمفاصلة في هذه المرحلة من عمر الثورة بالذات، فالمرحلة الحالية تفرض على هذه القوى والأحزاب السياسية أن تتجه لبناء فضاءٍ سياسي عام يسهم في نشر الوعي وبناء نخب جديدة تؤمن بالحريات والحقوق ودولة القانون وتتبادل الاحترام بين الحاكم والمحكوم. * كاتب سعودي. [email protected] @magedAlgoaid