خطفت الأحداث في مصر كل الأضواء في الأيام الأخيرة نظراً لخطورة ما يجري منذ اندلاع المواجهات بين العديد من شرائح المجتمع المصري ونظام الحكم الجديد. وعندما تم انتخاب السيد محمد مرسي العياط رئيساً، كتبنا في هذا المكان بالذات: «... إنها المرة الأولى ينتخب الرئيس بهذا الشكل منذ عهد الفراعنة». وقد توقف بعض المفكرين الإسلاميين عند بعض التعابير التي استخدمها مرسي في خطاب التنصيب، ومنها مفردة «الولاية» ومصطلح «الخلافة»، وهي عبارات استخدمها أبو بكر الصديق عندما تولى الخلافة الإسلامية. ولاحظ بعض المراقبين أن مرسي استخدم بعض التعابير المثيرة للقلق، ككلمة «الطاعة»، وكأنه ينظر إلى الدولة ك «ولاية»، وأن علاقة الحاكم بالمحكوم هي علاقة «طاعة» («الحياة» 30 يونيو/ حزيران 2012). ولعل في استحضار هذا الكلام ما يساعد على فهم ما تشهده مصر جراء تصرفات الرئيس مرسي، وهذه الأمواج البشرية التي جددت الإقامة في ميدان التحرير احتجاجاً على تفرد الرئيس بالسلطة وإصدار إعلان دستوري يتصل بالقضاء المصري، من حيث نقل النائب العام إلى موقع آخر، وهو ما اعتُبر مخالفاً للدستور. والأمر الملاحظ منذ بداية حكم مرسي، لجوؤه منذ اليوم الأول إلى إجراء انقلابات هادئة لفرض هيمنته على السلطة، بل على كامل السلطات. ونذكر الانقلاب الأول الذي أطاح بالمجلس العسكري الأعلى العام وبالمشير محمد طنطاوي والفريق سامي عنان وغيرهما من أعضاء المجلس، الذي بدا للوهلة الأولى وكأن هذا المجلس هو الحاكم الفعلي لمصر وأقدم مرسي على هذه الخطوة وهو يبتسم، مانحاً كبار أعضاء الهيئة العسكرية في مصر أرفع الأوسمة! كذلك نذكر إقدامه على قلب قرار المجلس العسكري، الذي قضى فى حينه بوقف صلاحيات مجلس الشعب، إلى أن جاءت المنازلة الصاخبة القائمة حالياً، فالرجل (مرسي) يريد أن يكمل «سياساته الانقلابية» كي يتفرد بالسلطة، وهذا أمر عارضته اكثريه من المصريين التي نزلت إلى الشارع محتجة على الإعلان الدستوري من الرئيس، والذي قضى بما يشبه «الإقالة للنائب العام» واتهامه ضمناً بأنه كان وراء بعض الأحكام المتساهلة التي أقرها القضاء في ما يتصل بتبرئة بعض رجالات النظام السابق من التهم التي وجهت اليهم. وهبّ الجسم القضائي المصري هبةَ رجل واحد في وجه قرار الرئيس، وسط انقسام خطير في صفوف الشعب المصري الذي وجد في مثل هذه القرارات المواجهة مع الرئيس مرسي، مع الإصرار على عدم مغادرة ميدان التحرير قبل عودة الرئيس عن قراره. لقد بكر محمد مرسي في فرض سلطاته المطلقة، إن لم نقل تسلطه على الشعب المصري، لدرجة اتهامه بأنه «الفرعون الجديد». فما الذي يعنيه ما تشهده القاهرة وسائر المدن المصرية من تظاهرات حاشدة وصدامات دامية مع رجال الأمن؟ إن ما يجري يقدم الوجه الجديد أو الوجه الآخر ل «الربيع العربي»، أو أنه يؤكد أن «منجزات» هذا الربيع ليست كلها إيجابية، أولسنا في فصل شتاء هذا الربيع؟ أم أننا أمام ربيع عربي معاكس؟ ولدى التدخل في تفاصيل بعض ما شهدته مصر، ولا تزال، يسجل أن الرئيس مرسي مازال يعتبر نفسه زعيماً لقبيلة، حيث خاطب الجماهير المؤيدة له -وهي قليلة- من شرفة قصر «الاتحادية»، فيما كانت التظاهرات المليونية تغطي ميدان التحرير من المعارضين لقراراته. ومن خلال الأجواء العاصفة على ضفاف النيل، يمكن التوقف عند تضامن افراد الجسم القضائي كافة، الذين هبوا هبة رجل واحد من جديد ضد الممارسات غير الديموقراطية التي لا يخولها الدستور للرئيس مرسي. وعليه، يمكن القول: نعم، في مصر قضاء وفي مصر قضاة. وفي محاولة من مرسي لتحويل الأنظار ولو قليلاً عما يجرى في الشارع المصري هذه الأيام، انطلق يكلم مناصريه عن إنجازات على الصعيد الإقليمي، فقال: «سورية هي في قلب الشعب المصري، وإنني أصل الليل بالنهار حتى ينتصر شعب سورية ونحن معه كي يحصل على حقوقه كامله... أنا أتحرك في العالم كله من اجل غزة وأبناء غزة». وهذا الكلام ينقلنا بشكل تلقائي إلى ما يجرى فى سورية وما جرى في قطاع غزة، فطول فترة المنازلة بين النظام والثوار، أفسح في المجال لظهور تداعيات لا تقل أهمية وخطورة عن الأحداث منذ انطلاقها قبل ما يقرب من عشرين شهراً، وفي طليعة ذلك تحولت التطورات إلى ما يشبه «إدارة الحرب» مع انحدار الوضع في سورية إلى منزلقات جديدة أخطر مما شهدناه حتى اليوم. ويبدو أن «العرقنة» التي تشهدها الساحات السورية عبر التفجيرات المفخخة، باتت لها «ترجمة» مختلفة عن ذي قبل، من حيث تنبه الغرب -الأميركي منه والأوروبي- إلى أن «التفكير القاعدي» هو الذي سيسود كبديل عن النظام القائم فى حال رحيله او ترحيله، وهذا ما ادى الى حدوث بعض «التباطؤ» في المساعي الآيلة الى ممارسة مختلف انواع الضغوط على نظام بشار الاسد ولاحداث اختراق ما يُخرج «الحالة السورية» من فترة المراوغة القائمة، وما لوحظ في الآونة الاخيرة استبدال بعض التعابير والكلمات لتوصيف الوضع القائم، كاستعمال «التفكيك» بدل «التقسيم». وفي هذا السياق أطلت الآنسة كوندوليزا رايس برأيها من جديد بعد حالة السبات العميق التي استسلمت لها منذ انتهاء دورها كوزيرة للخارجية الأميركية، ففي مقال لها نشرته في صحيفة «واشنطن بوست» ورد فيه ما يلي: «إن الحرب الأهلية في سورية ربما تكون الفصل الأخير من فصول تفكك الشرق الأوسط القديم على الوجه الذي يألفه العالم، وتكاد نضيع فرصة الحفاظ على تماسك المنطقة وإعادة بنائها». وتضيف: «إن النزاع في سورية يودي بالعراق وغيره من الدول إلى شفير التفكك... وتؤدي ايران دور كارل ماركس (دعوة عمال العالم إلى الاتحاد)، فهي تسعى الى بسط نفوذها على الشيعة وجمعهم تحت عباءه ثيوقراطية طهران وترمي إلى تفكيك وحدة البحرين والعراق ولبنان». على أن أخطر ما في تفكير كوندوليزا رايس ما عبرت عنه كالتالي: «... إن الحروب الأهلية تميل إلى تعزيز نفوذ غير المعتدلين «وأسوأ» القوى، وإطاحة الأسد في مثل هذه الظروف قد تفضي إلى بلوغ المجموعات الخطيرة السلطة. لكن خطر تداعي نظام الدول في الشرق الأوسط أفدح من خطر» القاعدة» وأخواتها، فكفة إيران ستغلب كفة حلفاء أميركا، وطوال عقود ستغرق المنطقة في دوامة عنف ومعاناة عاصفة، ومد الحرب لا يتجه إلى الانحسار في الشرق الأوسط، بل يعلو ويتجه إلى بلوغ ذروته، والانتخابات الأميركية انتهت وآن الأوان كي تبادر أميركا إلى التدخل»! عن أي تدخل تتحدث كوندوليزا رايس؟ وأين وكيف سيكون هذا التدخل؟ لعل هذا هو كلام من كان في موقع السلطة وأصبح الآن خارجها. .... وبعد لقد بكر الفرعون محمد مرسي في المواجهة مع شرائح كبيرة من الشعب المصري، وان التفرد بالسلطة لن يمر بسهولة على الإطلاق، فيما الوضع العام في مصر ينوء تحت وطأة اثقال الماضي القريب وترسباته وتراكماته، وبالتالي فان مصر ليست للإخوان فحسب وللإخوان فقط. صحيح أن ما انتهت اليه الامور فى غزه أدى إلى «تقويم الدور المصري والعلاقة التاريخية بين مصر وقطاع غزة». لقد كشفت نتائج العدوان الإسرائيلي على غزة الكثير من المتغيرات، ومنها: إقفال علاقة حركة حماس وسورية بالشمع الأحمر بعد هذا الوقت الطويل من النضال المشترك. وفي السياق ذاته، يشار إلى «تبدل كبير» في مواقف «حماس مشعل»، حيث أعلن وللمرة الأولى، ربما: «أنا أقبل بدولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدسالشرقية» (أي على 22 بالمائة تقريباً من مساحة فلسطين التاريخية). والإجابة الوحيدة التي تفادى إعطاءها عندما سئل عن الاعتراف بدولة إسرائيل، واكتفى بالقول: «الدولة الفلسطينية بعد إقامتها تتخذ قرارها بالنسبة لإسرائيل». لقد حصدت إيران الشكر والتقدير من قادة حماس في غزة نظراً لما قدمته من مساعدات بالمال والسلاح وهو الامر الذي مكن صواريخها من أن تصل لأول مرة إلى تل أبيب. وسيبقى السؤال مفتوحاً على مختلف الإجابات حول مستقبل دور الحاضنة إيران بالنسبة لحركات الرفض الفلسطينية. وكان لافتاً ما أعلنه المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي من أن أوضاع المنطقة والعالم تدل جيداً على اليد العليا لإيران فى التغيرات الراهنة... وإننا «نشاهد بوضوح أن السياسة الإقليمية للجمهورية الإيرانية تقترب من أهدافها». ومثل هذه التعليقات لا تحتاج إلى الكثير من التحليل سوى ترقب مجريات واحدة من اخطر «لعب الأمم» حيث الصغار لا يمتلكون صنع القرار، بل هم الذخيرة الحية للمواجهات الجارية على أراضيهم وفي دول الجوار. فهل دخل العالم العربي مرحلة «الوجه الآخر» للربيع العربي؟ الأمر المؤكد أننا أمام شرق أوسط هجين غير واضح المعالم، وسينقضى الوقت الطويل قبل أن تكشف الأحداث والمواجهات عن الجديد الآتي إلى المنطقة. لقد أنهينا المقال السابق بالنداء: يا إخوان أنقذوا مصر. ونكرر أيضاً هذا النداء لعل وعسى. * إعلامي لبناني