بعد محاولات فاشلة استمرت اكثر من ثمانين سنة، فاز مرشح «الاخوان المسلمين» الدكتور محمد مرسي بمنصب رئاسة جمهورية مصر. وكان من الطبيعي ان يحدث فوزه ردود فعل متباينة، على اعتبار ان المنظمات الاسلامية في المنطقة لا تتبنى خطاً سياسياً موحداً تلتقي حوله كل الحركات المماثلة. ففي حين كان مرشح «الاخوان المسلمين» محمد مرسي يتعهد للناخبين بمشاركة الاقباط والنساء في حكومته... فاجأه رجل الدين صفوت حجازي بالقول انه يتوقع من مرسي وأفراد حزبه، تحقيق حلم الخلافة الاسلامية التي اوصى بها حسن البنا. أي الخلافة التي ألغاها كمال اتاتورك سنة 1924، ولكن المرشد البنا طالب بإحيائها سنة 1928. وتطميناً للدول الغربية، وخصوصاً الولاياتالمتحدة التي قاطعت جماعة «الاخوان» في السابق، اعلن مرسي انه سيحافظ على الالتزامات والمواثيق والاتفاقيات التي عقدتها بلاده مع دول العالم. وهذا ما ردده في خطابه المتلفز الذي وجهه الى الشعب مشدداً على ان يكون رئيساً لكل المصريين من دون أدنى تمييز. وتعهد ايضاً بالحفاظ على أمن مصر القومي بكل ابعاده العربية والافريقية والدولية. الرئيس الاميركي باراك اوباما سارع للاتصال بالرئيس المصري المنتخب، مؤكداً استعداده للعمل المشترك ودعم كل الخطوات التي تحقق وعد الثورة بتوحيد الشعب وممارسة الديموقراطية. ويستدل من برقيات التهاني التي أرسلها عناصر الادارة الاميركية، وخصوصاً برقية وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، ان واشنطن كانت مهتمة بنجاح الاسلاميين ووصولهم الى الحكم. وقد عبّر أوباما عن هذا التوجه، يوم انتقد الرئيس حسني مبارك بسبب تصدي قوات الامن للمتظاهرين في ميدان التحرير، ودعاه الى ضرورة حل مشاكلهم والتجاوب مع مطالبهم وهتافاتهم. ورأت حكومة مبارك في ذلك التدخل السافر نوعاً من الاملاء لشروط تتعارض مع مفهوم السيادة الوطنية. وانسجاماً مع الخط السياسي الجديد، ألقى جيمس كلابر، مستشار اوباما للشؤون الامنية، كلمة في مجلس النواب قال فيها ان مصطلح «الاخوان المسلمين» هو مصطلح عام في مصر، يشمل عدة حركات وتنظيمات ذات اهداف مختلفة. وذكر ان جماعة «الاخوان» بالذات نددت مراراً باساليب «القاعدة» التي ترى في عملياتها الدموية تشويهاً لصورة الاسلام المسالم. ولكن هذه التبرئة لم تعمر طويلاً بدليل ان تنظيم «الاخوان» هاجم اوباما عندما اغتالت اجهزته اسامة بن لادن في باكستان، واتهمه بالوقوف وراء قرار القتل المتعمد. وقيل في حينه ان اوباما اتخذ قرار اغتيال بن لادن بتشجيع من نائبه جوزيف بايدن الذي رأى ان نجاح تلك العملية يقوي حملة التمديد ضد مرشح الحزب الجمهوري. كما اعتبرها وزير الدفاع ليون بانيتا افضل رد على المشككين بوطنية اوباما بسبب اصوله الاسلامية. اضافة الى العزاء النفسي الذي توفره عملية الانتقام لدى ثلاثة آلاف عائلة حرمها بن لادن من احبائها في برجي التجارة العالمية في نيويورك. المهم من كل هذا، ان الرئيس اوباما طلب من مستشاره جيمس كلابر، اقناع اعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، بان تأييد الحركات الاسلامية في الشرق الاوسط يصب في مصلحة الولاياتالمتحدة. لماذا وكيف وصلت الادارة الاميركية الى هذه القناعة؟! تشير التقارير التي رفعها سفراء أميركا في الشرق الاوسط، الى أهمية العناصر الانتحارية التي تجتذبها «القاعدة» جراء اضطهاد الحركات الاسلامية. وقد استمرت عمليات الاضطهاد في مصر، خصوصاً عقب اغتيال حسن البنا سنة 1949 ووقوع «الاخوان» تحت سيف الملاحقة والمراقبة. ومنذ ثورة الضباط الاحرار في 23 تموز (يوليو) 1952، ومحاولة اغتيال عبدالناصر في الاسكندرية على يد اخواني... تعرض اتباع المرشد العام حسن الهضيبي لأقسى انواع التعذيب والتنكيل. ومع ان انور السادات كان ينتمي الى تنظيم اخواني قبل انضمامه الى الضباط الاحرار، الا انه استخدمهم لضرب الناصريين، فاذا بهم يغتالونه آخر الامر. ثم ورثه حسني مبارك ليواصل من بعده سياسة العداء والتهميش. يقول المحللون ان عمليات الاضطهاد المتواصلة لهذه الجماعات المعارضة، أوجدت شريحة كبيرة من الحاقدين واليائسين في شتى الدول العربية والاسلامية. ولقد تنامت هذه الفئات في عهود الحكّام العسكريين الاربعة في مصر... وفي عهد الرئيس السوري حافظ الاسد عقب مجزرة حماة... وفي عهد الشاذلي بن جديد غداة الغاء فوز الاسلاميين الانتخابي في الجزائر، الامر الذي أدى الى اقتتال شعبي حصد اكثر من مئة الف قتيل. ومثل ذلك الاقتتال كاد يحدث بين الضفة الغربية وغزة، لولا تدخل العقلاء الذين رفضوا الاذعان لارادة واشنطن التي رفضت الاعتراف بشرعية «حماس» بعد فوزها في الانتخابات العامة. كل هذه المخالفات دفعت الشباب اليائس والضال والمهمش، الى الانخراط في صفوف «القاعدة» التي كانت بمثابة المتنفس السياسي الوحيد الذي اختاره متطوعون من مصر وليبيا وسورية ولبنان واليمن والسودان والجزائر والاردن والكويت، ومختلف الدول الاسلامية والعربية. ومن هذا الواقع المظلم خلصت واشنطن الى استنتاج مفاده ان الاسلاميين في المنطقة لم يجدوا الملاذ الآمن الا في افغانستان او في ابوت اباد في باكستان. وفي الموقعين كان ينتظرهم اسامة بن لادن او عبدالله عزام او أيمن الظواهري او خالد الشيخ محمد، مهندس عملية تدمير البرجين في نيويورك (11 سبتمبر 2001). واستناداً الى هذه الخلفية، قرر الرئيس اوباما قطع المصادر البشرية التي كانت تغذي «القاعدة» بالمتطوعين والانتحاريين. واعتبر ان افضل ضمانات للمحافظة على سلامة الامن القومي الاميركي تأتي من طريق مساعدة الجماعات الاسلامية للوصول الى الحكم والمشاركة في صنع مستقبل بلدانهم. عندها فقط يختفي الارهاب الديني ويتوقف «الاخوان المسلمون» عن تصدير العناصر المطلوبة للجهاد والفداء لدى «القاعدة». وفي ضوء هذه النظرية تتوقع الادارة الاميركية ان يظهر «الاخوان» في مصر المزيد من الاعتدال بعد ان تولوا زمام السلطة. كما تتوقع ان يتوقف الدكتور ايمن الظواهري عن جعل اليمن سوداناً آخر في ظل حسن الترابي. وبحسب الرسائل التي وضعت الاجهزة الامنية الاميركية اليد عليها بعد تصفية اسامة بن لادن في باكستان، وجدت رسالة موجهة الى معاونه الشخصي، زعيم «القاعدة» في الجزيرة العربية، ناصر الوحيشي، يطلب فيها تجميد كل نشاط ضد الحكومة. ويبرر بن لادن تساهله ازاء النظام اليمني بضرورة المحافظة على سلامة السكان الذين يهاجرون بطريقة جماعية هرباً من ظروف الحرب القاسية. ويستدل من مضمون تلك الرسالة ان بن لادن الحضرموتي كان متردداً في جعل اليمن بديلا من افغانستان او باكستان. بقي السؤال المهم المتعلق بصوابية هذه النظرية، ومدى ركون الولاياتالمتحدة الى اداء الرئيس محمد مرسي؟ تشير الصحف البريطانية الى التصورات الخاطئة التي اعتمدتها الادارات الاميركية السابقة اثناء تعاملها مع الحركات المعارضة لسياستها. وافضل مثال على ذلك خيبة الامل التي جنتها من وراء التخلي عن صديقها شاه ايران، والرهان على ثورة الخميني خلال الاتصالات التي اجراها مساعده قطب زاده في باريس. وبعد هدنة قصيرة شغلها رئيس محايد هو أبو الحسن بني صدر، قام الإمام الخميني بشن حرب ضروس ضد «الشيطان الاكبر»، معلناً تصفية النفوذ الاميركي مع كل وسطاء واشنطن بمن فيهم قطب زاده. وهكذا اثبتت الاحداث خطأ الرهان على ايران الخميني... مثلما سيثبت قرار مناصرة الانظمة الاسلامية خطأ اوباما في الرهان على الرئيس محمد مرسي. يجمع المراقبون في القاهرة على القول ان الرئيس مرسي سيباشر مهمته الصعبة بتفكيك مؤسسة الجيش وكل ما يرتبط بها من اجهزة امنية واقتصادية وسياسية. ويرى هؤلاء ان الفصل الحاسم لم يبدأ بعد. خصوصاً ان تذليل عقبة حسني مبارك كان الفصل الاسهل في مسلسل الثورة المصرية. بينما التحدي الاكبر يتمثل في قدرة «الاخوان المسلمين» على إبعاد العسكريين ورموزهم عن الحياة السياسية. والمعروف في مصر ان المشير حسين طنطاوي هو الشخص المسؤول عن ادارة مصانع مستقلة تنتج مختلف الانواع، بدءاً بالمعكرونة وانتهاء بالاسلحة. وانه يشرف على شؤون وشجون نصف مليون جندي تتفاوت اعمالهم بين شق الطرقات... وملاحقة المتظاهرين. والحق يقال ان الجيش شكل عملياً سنداً للحكم في مصر منذ ثورة عبدالناصر 1952 الى حين سقوط حسني مبارك وتسلم المجلس العسكري دفة الحكم من بعده. ويرى المؤرخون ان تقاليد الحكم المركزية في مصر تعود الى عهد الفراعنة، والى سيطرة فرعون على المقدرات الاقتصادية للبلاد التي عرفت سابقا بمياه النيل والاراضي الزراعية حولها. ثم ترجمت هذه السيطرة قبل مئتي سنة الى قوة عسكرية مركزية في عهد محمد علي، كادت تهدد أوروبا. من هنا القول ان المعركة الاولى التي سيخوضها الرئيس محمد مرسي ستكون مع المجلس العسكري الذي اتخذ بعض الخطوات «الدستورية» بهدف تطويق مرشح «الاخوان المسلمين» ومنعه من تهميش الجيش، كما فعل رجب طيب اردوغان في تركيا. اثناء لقاءات التهنئة مع مرسي، قال الرئيس الجديد انه سيمارس صلاحياته بشكل كامل، وانه سيعيد تشكيل الجمعية التأسيسية التي ستكلف بوضع الدستور. وكان بهذه الطروحات يذكر بان ما حصل في الجزائر سنة 1991، لن يتكرر في مصر سنة 2012. يومها تدخل الجيش لاجهاض فوز الاسلاميين، الامر الذي فجر حرباً اهلية. ويرى قادة «الاخوان» في القاهرة ان هذا الامر لن يحدث في مصر، كونهم انتظروا منذ سنة 1928 فرصة السيطرة الكاملة. وهم يعترفون بأن الجيش يملك قوة السلاح، ولكنهم يفخرون بأنهم يملكون قوة امضى هي قوة الشارع الذي اختارهم، وقوة الشريعة الاسلامية التي يحكمون باسمها. * كاتب وصحافي لبناني