يبدو أنه بقي القليل على اكتمال استدارة حماس النهائية خروجا من الفلك السوري الأسدي. ملك الأردن استقبل زعيم حماس، خالد مشعل، برفقة ولي عهد قطر، وقال مشعل، من عمان: لقد فتحنا صفحة جديدة مع جلالة الملك، ونتعهد بحماية الأردن، ونرفض فكرة الوطن البديل. الآن تتحدث الأنباء عن جولة ثانية لرئيس حكومة حماس في غزة، إسماعيل هنية، بطائرة قطرية خاصة تنطلق من العريش المصرية إلى الدوحة، وتتوالى الأنباء عن سحب الكثير من كوادر حماس من دمشق وسوريا، وتصفية الكثير من الأصول المالية منذ فترة، بنصيحة أو قُل بضغط تركي - قطري، ولم يبقَ إلا وجود مقر بديل لزعامة حماس الخارجية، وها هي الأماكن تهطل على مشعل ورفاقه، سواء في مصر أو قطر أو غيرهما. ماذا بقي إذن لحماس تقدمه لنظام بشار الأسد، الحانق، بصمت، ويكظم غيظه من «برودة» ورخاوة موقف حماس وخالد مشعل تحديدا، في الوقوف «وقت الشدة» مع احتياج النظام لهم ولرصيدهم المعنوي في معركة تبييض سمعة النظام في العالم العربي وجماهير المقاومة الفلسطينية؟ أو بعبارة أخرى: النظام الأسدي حانق على قيادة حماس لأنها لم تجعل ورقة المقاومة الفلسطينية، التي هي أم المقاومات في الأدبيات العربية، في صالح خدمة النظام المترنح، خصوصا أن إخوان سوريا يقفون في رأس الحربة الثائرة ضد نظام بشار الأسد. شيئا فشيئا تتحرر حماس من ضغط النظام الأسدي، وسنرى، في قابل الأيام، مواقف أكثر صراحة وحدَّة في التأييد العلني للثورة السورية، خصوصا مع تزايد الضغط الدولي وسخونة الثورة الداخلية، ودخول «الجيش السوري الحر» بقوة على المشهد. ستترك حماس منطق «التقية» وتلجأ لكلمة الحق العلنية التي لا تخشى في الحق لومة لائم، حسب العبارات الجديدة التي سنسمعها كثيرا في المستقبل القريب، حسبما أتوقع، لكن لا بأس، فهكذا هي السياسة وضرورات الواقع، بعيدا عن تغليفها بالبهارات الدينية والجماهيرية اللازمة. المهم أن «مصلحة» حماس وإخوان غزة الآن ليست في الارتماء في حضن المرشد خامنئي والحرس الثوري والاندماج الكامل في كأس حزب الله وجيش بشار الأسد، كما كان يجري طيلة السنوات الماضية بحجة «المقاومة والممانعة» كما كان إخوان مصر، بقيادة مرشدهم الحديدي مهدي عاكف وثلة من مثقفي هذه الجبهة الإسلامية الحركية المصرية ينظرون ويكتبون، مثل سليم العوا وفهمي هويدي، الآن جرت في الساقية مياه أخرى، وتحولات جديدة، اقتضت تغيير المفردات والخيالات والمواقع الجديدة، وكله باسم الحق والقيم العليا... من يرفع السيف فبالسيف يقتل، كما يقول الإنجيل، ونظام الأسد، وقبله نظام الملالي الخميني في طهران، أسرف كثيرا في توظيف الورقة الفلسطينية والمقاومة والممانعة في لبنان، بل وحتى في العراق، عراق نوري المالكي، الذي ما كان ليكون لولا القوات الأميركية.. فكم ابتذلت كلمة المقاومة حقا! استباحت سوريا، وبعدها إيران، لبنان كله، وطوعت قواه الأخرى أو أرعبتها، ورهنت إرادة البلد لسلاح حزب الله، الحكومة الخفية، وعبثت بالعراق بشكل بشع، وشوهت مستقبله بسموم الطائفية والثقافة الميليشياوية، ونشرت، بمساندة الإخوان المسلمين، ودراويش اليسار والقومجية العرب، ثقافة تخوينية صارخة في الإعلام العربي طيلة السنوات الماضية، وكانت فضائية ك«الجزيرة» هي القائدة في ترويج هذه الثقافة السطحية الخطابية التي تعبث بمشاعر الجمهور المنفعل عاطفيا. وظل الأمر كذلك، حتى انفجرت مياه الربيع العربي أو الفوضى العربية أو الفتن العربية، سمِّها ما شئت، فاختلط الحابل بالنابل، وصارت الأحلام الدفينة لمعارضة الأمس ممكنة، وصار الإخوان في مصر وتونس وليبيا والآن سوريا - الذين كان أقصى طموح لهم هو رفع الحظر السياسي عنهم أو الحصول على نصيب بسيط من السلطة - هم أهل السلطة نفسها، لأجد إعلان تهنئة لسعد الكتاتني، رئيس مجلس الشعب المصري الجديد عن حزب الإخوان المسلمين، هذه التهنئة منشورة في صحيفة مصرية «قومية» من أحد أقاربه مصدرة بالآية القرآنية: «إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ»، وهي الآية التي أتت في سياق بشارة ووصف تمكين المؤمنين من دولة فرعون مصر! الآن، الإخوان المسلمون في كل هذه البلدان ليسوا في حاجة إلى الدخول في حلف محرج مع إيران وسوريا وحزب الله وشظايا من اليسار والقوميين الدائرين في هذا الفلك، علاوة على غرائبية هذا المزيج الثقافي والسياسي والطائفي، الذي كان نقطة ضعف في دعاية إخوان مصر وحماس بتصويرهم أتباعا وعملاء لإيران وسوريا الأسد في الفترة الماضية قبل «الربيع العربي»، تحرر الإخوان، خصوصا حماس، من هذا العبء المرهق سياسيا، بل وصار إخوان مصر يحظون بدلال أميركا الرسمي، وقاعدة شعبية أوصلتهم لقيادة مجلس الشعب، ومعهم أصدقاؤهم المشاغبون نواب التيار السلفي! فما الحاجة إذن إلى البقاء في هذا التحالف «الهجين»؟! لذلك ربما حاولت إيران التذكير بوشائج قديمة تربط التيار الخميني بحركة الإخوان المسلمين (للتذكير فإن المرشد الحالي علي خامنئي هو الذي ترجم كتاب سيد قطب «معالم في الطريق» إلى الفارسية). في هذا السياق، قبل أيام في الكويت، وفي مقر السفارة الإيرانية لديها، أكد نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية، حسين أمير عبد اللهيان، كما نشرت جريدة «السياسة» الكويتية، أن طهران «تشعر بالارتياح لوصول الإخوان المسلمين إلى أماكن متقدمة في قيادة بعض الدول العربية، بعد اكتساحهم نتائج الانتخابات البرلمانية، كما حدث في تونس ومصر والمغرب». وقال عبد اللهيان، في مؤتمر صحافي بمقر سفارته، إن علاقة بلاده مع الإخوان المسلمين «قديمة ومتواصلة من دون أن يكون هناك تأثير مباشر على قرارات الطرفين». الحق أن المسؤول الإيراني صادق في إشارته إلى قدم العلاقة بين الإخوان وجمهورية الخميني، بل بكل تيار الإسلام الشيعي السياسي منذ أيام الشاه، لكنه غير صادق في الحديث أنه لا توجد تأثيرات متبادلة بين الطرفين؛ فقد كان التحالف والاصطفاف الإخواني المصري، على وجه الخصوص، ظاهرا للعيان، ناهيك عن التبعية التي كانت بوضوح الشمس لحماس. لكن هذا أصبح، أو يكاد، من الماضي، وستعاد بعد نهاية هذه الأعاصير صياغة العلاقة بين إيران الخمينية وجماعة الإخوان المسلمين.. بالمناسبة، سيكون ملف العلاقة مع إيران من أبرز نقاط الاشتعال بين التيار السلفي والتيار الإخواني مستقبلا! لكن يبقى السؤال: هل ستحدث قطيعة بين إيران الخمينية والإخوان، أم علاقة تعاون ندية، أم تجاهل وبرود، حتى يتفرد الإخوان بزعامة الجماهير المسلمة منفردين هذه المرة دون «اللوثة» الخمينية؟ على الرغم من أن الخميني كان، إلى الأمس القريب، هو المجدد الكبير للإسلام والأمة كما كان يقول راشد الغنوشي إلى سنوات مضت. أم لا هذا ولا ذاك، بل تعود العلاقة تدريجيا إلى سابق دفئها، ويكون الأمر مجرد خصومة مؤقتة؟ خصوصا أن أكثر نسخ الإخوان عداء لإيران وحزب الله في المنطقة، وهم إخوان سوريا، يقول مرشدهم، رياض الشقفة، في حوار أخير مع جريدة «الجمهورية» حول موقفه من حزب الله بعد سقوط النظام الأسدي القاتل، وهو الحزب الذي ساند نظام الأسد إعلاميا وعسكريا، وغضب منه كل الثوار في سوريا بمن فيهم الإخوان، وتعهد برهان غليون، رئيس المجلس الانتقالي، علنيا، بقطع العلاقة مع هذا الحزب ومع إيران في حال نجاح الثورة وسقوط الأسد، لكن السيد رياض الشقفة ترك مجالا للغموض الإخواني البناء! فقال، حين سُئل عن مستقبل العلاقة بحزب الله بعد سقوط الأسد، ومحاولة حزب الله حينها إعادة العلاقة مع الإخوان: «حينذاك لكل حادث حديث». فعلا لكل حادث حديث.. وهذا سر بقاء الإخوان في كل الأحداث، أصحاب الحديث الأكثر إلحاحا وصخبا، بكل الألوان. [email protected] نقلا عن الشرق الاوسط