في عام 1931 أصدر البريطاني ألدوس هاكسلي رواية «عالم جديد وشجاع»، واعتبرت الرواية حينذاك - والتي كانت رداً ضمنياً على روايات اتش.جي. ولز التي رسمت عالماً طوباوياً - شكلاً جديداً من أشكال الخيال العلمي الذي يُوظف هذا الجنس الأدبي كحامل لنقد لاذع ساخر. وفي حين تفتتح الرواية في عام 2540 ميلادياً فإنها تصنع تاريخاً جدياً وتقول إنه عام 632 بعد فورد. وبهذا تحولت هذه الرواية إلى نقد قاس لنتائج الثورة الصناعية، التي تنتج مجتمعاً روائياً كل تفصيلة فيه تحت السيطرة بما في ذلك البشر وأحاسيسهم. عالم جديد وشجاع، بكل ما تحمله هذه الصفات من نقد ومفارقة ساخرة. وإذا كان البريطانيون قد سموا هذا العالم جديداً - بسبب صدمة ما بعد الثورة الصناعية - فإن العالم العربي بالتأكيد يمر بصدمة أكبر وهي تلك المتعلقة بصنع هويات جديدة في الميادين، أو بالأحرى اكتشافها، ومن ثم التعبير عن مفردات الوعي التي كانت مقيدة في أضيق مساحة تحت سلطة غاشمة لا يُمكنها فهم التعددية والتنوع والاختلاف. أنتجت هوية الميادين (للجميع من دون استثناء سواء من شارك أو امتنع) إمكانية تعبير عن رؤى متعددة، وأكسبت الذات شجاعة وقدرة على طرح الاختلاف (بغض النظر عن الهزيمة الموقتة للميادين في هذه اللحظة)، فيطالعك عنوان ديوان شعر كان لابد وأن يبدو صادماً ومثيراً للجدل في لحظة سابقة، كأن تقرر أميرة الأدهم - على سبيل المثل - أن تسمي ديوانها «تفقد عذريتها على مهل» (ميريت 2013). حتى لو كان العنوان مجازياً فإن المجاز بذاته ما كان يُستخدم من قبل، بل كان هذا المعنى هو المدلول الضمني الفرعي للكثير من الدوال الأخرى المتشبعة بالروح البورجوازية المحافظة التي تتوخى الحذر في تعاملها مع مجتمع كل همه المراقبة. ربما تكون تسمية الأشياء بأسمائها هي واحدة من أهم نتائج الجلوس في الميادين، تحولت اللغة، تغيرت، لم تعد تلك اللغة الحذرة أو المرتبكة، لم تعد اللغة تلجأ إلى صور وتشبيهات، بل أصبحت تلجأ إلى نفسها في عنفوانها ومباشرتها وتصادمها مع الجميع، وكأن الهتافات العديدة التي يستهلها فعل «يسقط» - وهو أمر ورغبة وتمنٍّ ومطلب - كانت البوابة لتجديد شباب اللغة. بالطبع، في أثناء مغادرة اللغة لمساحات التكلس والجمود، كانت الفكرة تلحق بها، بل ربما كانت أسرع من اللغة في التعبير عن نفسها بحيوية وغزارة، في القصيدة والرواية والقصة والفيلم وعلى الجدران، وأيضاً على مواقع التواصل الاجتماعي في شكل أصبح يسبب الكثير من الإزعاج ليس فقط للسلطات بل أيضاً لحراس الأخلاق وحراس الفكر وحراس الفضيلة، أي: الحرس القديم. هو إذاً عالم شجاع وجديد بكل المقاييس، يزاحم كل القديم ليجد لنفسه مساحة تسعه وتحميه في الوقت ذاته من تقاطعات أو منافسات وهمية مع عالم قديم آخذ في الأفول حتى لو «شبه لكم» أنه باقٍ. المصطلح الجديد ظهر مصطلح الكتابة الجديدة قبل ظهور ميادين الثورة ببضع سنوات (لا أميل إلى ربط المصطلح بأي مجايلة، حتى وإن كان ظهوره قد ارتبط بها). كان هناك جيل اكتسب خبرة الكتابة وكانت كتاباته مختلفة من ناحية الأفكار، وكثرت حينها المؤتمرات التي تتناول الكتابة الجديدة ليس فقط في مصر ولكن أيضاً في العالم العربي، وعلى سبيل المثل: القاهرة (فبراير 2007)، دمشق (أغسطس 2008)، الكويت (مارس 2009). لكن ذاك العالم الجديد كان كأنه يجاهد ليصوغ نفسه، فهو لم يكن قد اكتمل بعد، كان يتحسس طريقه ليجد المكان الملائم. في القرن الحادي والعشرين لا يمكن فصل الأدب - كمنتج إبداعي وفلسفي - عما يحدث خارجه في عالم مجنون يتشبث بالقديم ويسحقه في الوقت ذاته. كانت رواية أحمد العايدي «أن تكون عباس العبد» (ميريت 2003 ) بمثابة حجر ألقي في بحيرة آسنة، فيكفي أن تطالع ما قاله عنها القراء في موقع جود ريدز وكيف اختلفوا حولها. ولكن يجب أن نتذكر أيضاً أن في 2003 كان العالم الذي نعرفه ينهار أمامنا عندما قامت أميركا بغزو العراق (ولم تخرج حتى الآن)، وكنا حينها في ميدان التحرير لأول مرة - بالنسبة لجيلي على الأقل - نهتف ضد أميركا ونتضامن مع العراق، لكن ذاك الخروج الذي حدث في 20 آذار (مارس) 2003 تم إجهاضه بوحشية في اليوم التالي، ليحاول أن يتكرر عند إضراب 2008. لم أقصد بكل ما سبق مقدمة للأعمال التي أود الكتابة عنها، لكنني أردت أن أضع هذه الأعمال في سياق اجتماعي وسياسي وهو ما يفسر شكلها الأدبي، ويضعها في موقع ملائم على خريطة التاريخ الأدبي. فيض الكتابة في مصر كثير، أكثر مما يُمكن لأي متابع أن يستوعب، وذلك لكثرة دور النشر وكثرة المواهب وازدياد الرغبة في الكتابة. إلا أن هناك شكلاً من المتابعة ضروري لفهم تطور الشكل الأدبي بمحاذاة التطور الاجتماعي والسياسي، وعليه يمكن رصد أهم الملامح في «الكتابة الجديدة». فهناك أولاً عدم الالتزام بمنطقية الحدوتة التي يسعي إليها دائماً القارئ، بل هناك خلق شخصيات من العدم وبناؤها في شكل يحمل دلالات فلسفية أكثر مما يحيل على مدلولات منطقية، وهو ما يُربك القارئ الذي يرغب في التسلسل المنطقي عبر اللغة المألوفة والأفكار التي خبرها. وبناء على هذه الشخصيات لا تأتي البنية المعروفة، التي يُمكن عبرها متابعة «القصة»، فتبدو أحياناً البنى وكأنها متشرذمة، أو «مفككة»، وقد تكون «مرهقة» لبعض القراء، لكن هذه البنى بذاتها هي انعكاس لبنية سياسية واجتماعية تتميز بالتشرذم نفسه. بمعنى آخر، تعكس البنية عالماً تشرذم فعلياً وعلى وشك الانهيار، على تخوم نهاية وبداية، فيبدو السرد أحياناً وكأنه بين اليقظة والحلم. أما الأفكار التي تشتغل عليها هذه الكتابة فتكون بمثابة معول يهدم السائد والمعروف والثابت بقدر كبير، وقد يسبب الذعر أحياناً، ويصل الأمر إلى هدم التابو بلا هوادة، وفي شكل يبتعد كثيراً عن المباشرة والديماغوجية، بل في شكل فني يتولد على التخوم، أو بالأحرى في شكل لئيم يعتمد على الإبهام. لا تهتم كثيراً هذه الكتابة بتحديد المكان واللحظة الزمنية، فما يهم هو الجوهر الذي تسعي الى إيصاله عبر كل تقنيات الإبهام، فيكون مثلاً هذا الجوهر هو التواطؤ بين طبقة بورجوازية ثرية وبين سلطة استخباراتية مجهولة الهوية كما فعل ياسر عبد الحافظ في «كتاب الأمان» (2013)، وذلك من خلال بنية متشابكة تماماً، غير مألوفة، تتميز بأجواء قوطية. في العام نفسه أصدر طارق إمام الذي يغامر بالتجريب الدائم في كتابته ليطرح دائماً سؤال المدينة روايته «ضريح أبي»، وعبر عالم عجائبي غرائبي يطرح فعلاً سؤال المقدس الذي يستمد قوته من تناقل الرواية الشفوية، ويُبقي على الضريح رمزاً لا يعرف سره إلا الراوي، وعلى مدار النص يتغير إيمان الراوي على الطريقة النيتشوية التي تطرح قيماً ميتافيزيقية ثم تنقضها عبر إعلان الموت الكامل (كما فعل محمد أمين راضي في مسلسل «السبع وصايا»). في العام الحالي- 2014- صدرت ثلاث روايات تستحق التأمل. أصدرت منصورة عز الدين «جبل الزمرد» وفيها اشتغلت على تيمة صغيرة من «ألف ليلة وليلة» وأكملت القصة التائهة بين الماضي والحاضر عبر الرفع من قيمة التدوين الذي كان محرماً على النساء وعلى الرعية. وما بين التنقل بين ماضٍ مبهم عجائبي وحاضر مفهوم بقدر نسجت ما أرادت قوله عن مفهوم الحرية. ثم أصدر أشرف الخمايسي رواية بعنوان «انحراف حاد»، ويواصل فيها سؤال الموت والخلود عبر تقنية جمع الشخصيات في مكان واحد (الميكروباص) والانطلاق من هذه النقطة لمراجعة خلفية كل شخصية. يُعيد الخمايسي طرح المقدس الثابت ليحاكمه وينفض عنه الزائد والمتكلس، ليصل إلى الجوهر: الإنسان. وبعده أصدر أحمد عبد اللطيف روايته الجديدة «إلياس» التي يظهر فيها الجنون الكامل للتجريب الروائي. فيعيد تناول مفهوم الهوية من منظور جديد تماماً، عبر استنساخ شخصية إلياس- التي جاءت من الفراغ - ليظهر في لحظات الأزمة في التاريخ المصري والعربي بداية من سقوط غرناطة وحتى مستقبل لم يأت بعد. ويبدأ إلياس - الذي يحمل خصوصية مساوية لعموميته في الزمن - في هدم تابو اللغة عبر إعراب كرهه للفواصل وضمائر المفعول، فتأتي الرواية صادمة من ناحية البنية واللغة. ألا يُعد هذا عالماً جديداً وشجاعاً؟: في طرحه أسئلة صادمة بلا مواربة، في خلخلة اللغة، في الاشتغال على بنية غير مألوفة مهددة دائماً بعدم حصولها على قبول القارئ، في طرح السؤال عن المقدس، والأهم في جرأة التجريب الكامل من دون الالتزام بما عُرف من معايير المكان والزمان والربط المنطقي بين الأحداث، بل يراودك أحياناً إحساس أنّ «لا شيء يحدث، لا أحد يمر من هنا»، كما قال بيكيت في «بانتظار جودو»، وكما قال زوربا في رواية كازانتزاكيس «هل هناك أعظم من هذا الانهيار؟».