نشر المخرج الألماني فيم فندرز تفاصيل تجربته الاستثنائية النادرة في عمله مساعداً للمخرج الايطالي الكبير مايكل انجلو انطونيوني (1912- 2007) في تصوير وتقطيع فيلمه الأخير «وراء السحاب» (1995)، وكان اللقاء الأول بينهما في مهرجان كان عام 1982، حيث كان فندرز يجمع شهادات مصوّرة مع عدد من المخرجين الوافدين إلى المهرجان حول مستقبل السينما، ومنهم غودار وسبيلبيرغ وفاسبيندر وفيرنر هيرتسوغ وانطونيوني (المايسترو). وتحولت هذه الشهادات يومها إلى فيلم تسجيلي بعنوان «666»، وهو رقم الغرفة التي جرى فيها التصوير في فندق المارتنيز. وعكست شهادة انطونيوني اهتمامه بالتكيف مع التقنيات البصرية الجديدة المختلفة، مشيراً إلى تجربته الشخصية وأسلوبه المميز وآرائه الخاصة التي نجد كل تفاصيلها في كتابه «بناء الرؤية»، وبعد عام أصيب انطونيوني بجلطة دماغية تركت تأثيراً واضحاً على نطقه، وتوقف مشروع فيلم كان يستعد لتصويره بعنوان «برقيتان» عن سيناريو مقتبس عن قصة كتبها بنفسه وكان فندرز مرشحاً لمساعدة المايسترو، في إنجاز هذا الفيلم. وفي عام 1993 دعي فندرز ليكون مخرجاً مساعداً ومنفذاً لمشاهد الربط في فيلم «ما وراء السحاب» الذي كتبه تونينو غويرا، عن أربع قصص قصيرة، منفصلة متصلة، من مجموعة قصصية نشرها انطونيوني، يجمع بينها خيط رفيع من الحب المتوهم والمحبط، وهو من المواضيع الأثيرة لدى انطونيوني، في أعماله السابقة، ومنها فيلمه القصير الأول «أكاذيب الحب» (1949). إبداع بالواسطة كان فيلم «ما وراء السحاب» من إنتاج ايطالي فرنسي الماني مشترك، وتم تصويره في ايطاليا وفرنسا، انطلاقاً من فيرارا، مسقط رأس انطونيوني، بحضور نخبة من الممثلين منهم جون مالكوفيش، صوفي مارسو، فينسان بيريز، ايرين جاكوب، مارتشيلو ماستروياني، وجان مورو. وكان انطونيوني يصارع الجلطة الدماغية، مرة أخرى، وتساعده زوجته انريكا التي تترجم لبقية العاملين إيماءاته ومشاعره ورغباته، حيث اعتادت أن تحمل في يدها ورقاً وقلم رصاص لتسجيل ما توحي به همهمات المايسترو وإيماءاته، وهذا ما يفعله اندريه بوني، مساعد المايسترو، بينما تساعد فندرز في التصوير الضوئي والتوثيق زوجته الخامسة دوناتا. وكان حضور تونينو غويرا مفيداً في توضيح أفكار المايسترو، وصقل السيناريو بما يتناسب مع الأفكار المستجدة أثناء العمل، وهو الصديق القديم الذي كتب سيناريوات أهم افلام المايسترو. امتدت عمليات التصوير خمسة شهور، وكانت أيام التصوير الفعلي خلالها أربعة وستين يوماً، انتهت بنهاية الربع الأول من عام 1995. وجاءت تفاصيل تلك الأيام في كتاب «يومياتي مع انطونيوني - تجربة استثنائية -» الذي كتبه فندرز، بحب وصراحة وتشويق، ما يليق بنوادر الأدب السينمائي. ففي اللقاءات الأولى رسم فندرز الحالة التي يعيشها المايسترو: «بدت الرسوم التي تخطها يده اليسرى مدهشة بدقتها، بالنسبة إلى رجل اعتاد أن يكتب بيده اليمنى، وأصبحت وسيلة لا يمكن الاستغناء عنها، بخاصة عندما بدأ التصوير الفعلي للفيلم. وأذهلتني طريقة مايكل انجلو في تقبله إعاقته، وصبره الذي تمتع به حيال الآخرين إلى أن يفهموه في النهاية، فإذا أخفقت كل التخمينات والاقتراحات المختلفة في مقاربة المعنى الذي يقصده، ولم نستطع التقاط ما يحاول قوله، لم يكن ييأس، بل يشرع في الضحك ضاغطاً بأصابعه على جبينه، وكأنه يقول: يا لكم من أغبياء». واكتشف فندرز أن انطونيوني يغيّر آراءه كثيراّ، في ما يشبه لعبة جرّ الحبل بين متنافسين صامتين، فالاتفاقات التي تجري معه في المساء، حول آليات تصوير اللقطات والمشاهد واختيار زوايا تصوير الأطر السردية التي تشكل جسوراً بين القصص الأربع، كانت تتعرض للحذف التام أو الجزئي في اليوم التالي، حينما يرى أنها ابتعدت عن أسلوبه الخاص، الذي تشكّل خلال أكثر من نصف قرن، فيما كانت أعصاب مندوبي الجهات المنتجة تزداد توتراً، مع الأيام والساعات المهدورة في إعادة التصوير وتغيير أدوار الممثلين وترميم السيناريو، أو تطعيمه، بما يتناسب مع المزاج المتقلب للمايسترو العنيد، الذي صار يتشابه، في حالاته المتغيرة، مع الأطفال المتوحدين المدللين. رغبات وتدمير كان فيم فندرز حريصاً على تلبية رغبات المايسترو، في تدمير اللقطات والمشاهد التي تعب في تصويرها بدقة وحرفية عالية، ومنها تقزيم الأدوار الثلاثة لماستروياني (المعلم والصياد والفنان سيزان)، إذ لم يبق منها في النهاية سوى مشهد واحد، مع جان مورو، في فيلم من 112 دقيقة. وبينما كان المنتجون يرغبون بتقديم فيلم من إخراج مشترك، بين المايسترو وفندرز، كان انطونيوني كان يشد الحبل بقوة، لإطاحة الشريك المنافس، وتحويله إلى مساعد، أو «شرّ لا بد منه». ولم يكن فندرز مدركاً هذه الرغبة في البداية، وحينما تأكد منها تخلى عن فكرة المزاوجة بين أسلوبين في فيلم أكثر متعة، وترك للمايسترو حرية الحذف والتقطيع في المونتاج الأخير، فألغيت أهم المشاهد التي أنجزها فندرز، وأعاد الإيطالي تصويرها بكاميراتين، بدلاً من واحدة، وكأنه أراد أن يقول له بوضوح: دع فيلمي وشأنه، إن قصصي ليست بحاجة إلى التأطير، فهي تستطيع الوقوف بمفردها... لكن فندرز ظل متسامحاً، وحريصاً على نجاح الفيلم الأخير للمايسترو، فاحتفظ بالنسخة التي لم يغربلها المايسترو، وقال لنفسه بحب واحترام: «هذا هو انطونيوني، وعليك أن تتقبله كما هو».