لم يحقق فيلم ميكيل - انجلو انطونيوني الملون الأول «الصحراء الحمراء» نجاحاًَ يذكر في ايطاليا، بل إن واحداً من النقاد الذين كانوا، في الماضي، من مساندي سينما انطونيوني بقوة قال: «حسناً إنه فيلم جيد عن الضجر.. ولكن هل حقاً على فيلم عن الضجر أن يكون هو نفسه مضجراً؟». ولكن على رغم اخفاقه في ايطاليا، كان رد الفعل على عروضه جيداً وحقق اقبالاً لا بأس به، بخاصة، في البلدان الانجلو - ساكسونية. ومن هنا كان من المنطقي أن يسارع المنتج الايطالي كارلو بونتي، الذي كان يسعى في ذلك الحين الى توسيع أعماله خارج ايطاليا، وغالباً لأسباب شخصية، من دون أن يكون راغباً في خوض السينما الهوليوودية، كان من المنطقي أن يتلقف انطونيوني، الراغب كذلك في العمل خارج ايطاليا، ليوقع معه عقداً يشمل تحقيق ثلاثة أفلام باللغة الانكليزية. والحقيقة أن هذا النوع من المشاريع الأوروبية - الانجلو ساكسونية، كان قد أضحى على «الموضة» في ذلك الحين، وكثرت مشاريع تحاول أن تجمع ما كان يبدو أنه نقيضان: التقنيات الأميركية والمضامين الأوروبية. ولسوف يحقق انطونيوني تباعاً، تلك الأفلام الثلاثة تباعاً: «بلو آب»، «زابرسكي بوينت» وأخيراً، «المهنة مراسل صحافي». ولئن كانت هذه الأفلام الثلاثة قد حققت، في العالم وفي ايطاليا، نجاحات، شعبية حتى، تفوق نجاحات انطونيوني السابقة، فإن «بلو آب» يبقى أكثرها نجاحاً، وليس من ناحية الاقبال الجماهيري - حيث وللمرة الأولى كان في امكان منتج أو موزع أن يقول إنه كسب أموالاً بفضل فيلم لانطونيوني، حتى وإن كان عدد من مناوئي الفيلم - وكانوا كثراً ايضاً - سيقولون لاحقاً إن الاقبال عليه كان بسبب مشاهد العري التي لم يكن قد سبق ان كان لها مثيل في السينما الانجلو - ساكسونية من قبل. غير أن هذا الكلام ظلم للفيلم بالتأكيد، وكذلك ظلم لعدد كبير من مواهب اجتمعت فيه، وبعضها انطلق منه، فيما عرف بعضها الآخر على نطاق واسع وعالمي بفضله، بعدما كان معروفاً على نطاق اقليمي أو نخبوي من قبل. ولعل في مقدم هذه الفئة الأخيرة الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار، الذي اقتبس الفيلم من قصة قصيرة له، وكذلك الموسيقي هربي هانكوك الذي كتب الموسيقى لمعظم المشاهد. علماً بأن الكاتب الانكليزي ادوارد بوند، هو الذي كتب الحوارات للفيلم. فإذا أضفنا أن الفيلم أعطى فانيسا رد غريف أعظم أدوارها، وأطلق جين بركين، في دور صغير، كما أنه أوصل الى الشهرة العالمية مصور عالم الأزياء اللندني دافيد بالي، من خلال مزج قصة كورتاثار، بومضة من حياة بالي، في لندن الستين - الصاخبة، يصبح في امكاننا ادراك ما فعله هذا الفيلم الاستثنائي من ربط، لمرة نادرة، بين ما هو نخبوي وما هو بشعبي. تعني عبارة «بلو آب» التي حملها الفيلم كعنوان، تكبير الصور. وهي عملية تقنية تقوم في نفخ الصور وتكبيرها، حتى التوصل الى مشاهدة تفاصيلها. والحال أن هذا هو موضوع الفيلم، ولكن ليس على مستوى تقنية الصورة فقط، بل حتى - وبشكل موارب - على مستوى تكبير مشاهد من الحياة لوضعها على الشاشة. ومن هنا ذلك المزج بين ثلاثة أبعاد أساسية في هذا الفيلم (البعد الوجودي، البعد البوليسي، والبعد الذهني)، حتى وإن كان كل جمهور من جماهير هذا الفيلم قد فضّل التمسك ببعد واحد بحسب ما أحب أن يدركه من هذا الفيلم. أما الحبكة التي يدور هذا كله من حولها، فهي 24 ساعة من حياة مصور أزياء لندني يدعى توماس (دافيد همنغز). انه مصور محترف عرف بصوره الشهيرة للأزياء، لكنه في حقيقة أمره يشعر بالسأم ازاء هذا النوع من الفن ويتطلع الى نشر كتاب يضم صوراً فنية يمضي بعض وقته وهو يلتقطها بالأسود والأبيض، لعالم يتناقض تماماً مع عالم المخمل والأزياء والفاتنات: انه عالم الطبقة العاملة، التي نراه، شبه متنكر حاملاً كاميراه ليصورها، في ساعات العمل والراحة وما الى ذلك. وحين يبدأ الفيلم يكون توماس على وشك بدء يوم جديد، وقد انتهى من تصوير مشاهد عمالية. لكنه بالكاد سينام ويرتاح، ذلك أن تصويره العمال أخره عن موعد لتصوير عارضة أزياء فرنسية شهيرة (فاروشكا).. وهو بعد الانتهاء من هذه، سيكون عليه أن يصور مجموعة أخرى من العارضات الفاتنات تأخر عليهن بدورهن. كل هذا يسئمه ويتعبه، لكنه لا يخلد الى الراحة، بل يتوجه الى دكان عتائق يود لو يشتريه، فيشتري مروحة مركب صغير، ثم يمر بحديقة عامة قريبة ليلتقط بعض الصور، ولا سيما لرجل وامرأة يتعانقان. غير أن المرأة (ردغريف) التي تراه يصور تحس بالرعب وتلحق به طالبة منه الشريط السالب، يرفض. ثم يفاجأ بها، بعد حين في شقته وهي تلح في طلب الشريط. يسايرها ويعطيها شريطاً سالباً آخر، من دون أن تنتبه هي الى ذلك. وبعد رحيلها تبدأ رحلته مع تظهير الصور وتكبيرها، حتى يكون من أمره أن يكتشف وسط حشائش الحديقة، جثة رجل. ثم يرصد وجود شخص آخر مختبئ بين الأشجار يحمل مسدساً. كل هذا قد لا يبدو واضحاً تماماً، ولكن مع تكبير الصور، يصبح أكثر وضوحاً. وهكذا يتوجه الى الحديقة العامة ليلاً، فيعثر على الجثة بالفعل.. لكن المشكلة هذه المرة تكمن في أنه لم يحضر الكاميرا معه. سوف يعود لاحقاً لكنه لن يجد الجثة.. ولن يجد أي شيء يشير الى مكان سبق له أن صوّره، ثم رآه بأم العين. يحبط ويخرج يائساً وقد بدأ الفجر يلوح.. وهنا يشاهد مجموعة من الشباب العابثين، الذين كان شاهدهم سابقاً يلهون عابرين الشوارع بسياراتهم الصاخبة. اثنان منهم هذه المرة يلعبان كرة المضرب.. ولكن من دون كرة. إنهما فقط يقلدان اللعب وهمياً.. يقف توماس ناظراً اليهم (ولعله يفكر: هل يلعبون حقاً، أو يتصفون اللعب؟ هل شاهد الجثة حقاً، في الصورة أو في الواقع.. أم أنه توهم ذلك كله؟ هل تراه يعيش حياة حقيقية أو حياة وهمية؟) انه لا يعرف الآن ما الذي يمكن أن يكون عليه أي جواب على أي من هذه الاسئلة.. ولكن في خضم ذلك كله يوحي اليه اللاعبان بأن الكرة قد سقطت قربه، ويطلبان منه، بالايماء، أن يناولهم اياها. ببطء شديد ينحني توماس ويلتقط من على الأرض الكرة المفترضة: «يقبض» عليها بيده، ثم يرمي بها نحوهم، وقد صار لرميها الآن صوت بدأ يتعالى بالتدريج كما لو أن ثمة كرة حقيقية.. ينظر توماس الى المشهد بشيء من الراحة الآن، ثم يغادر المكان فيما الكاميرا ثابتة على مساحة لا تنتهي من العشب الأخضر. طبعاً يمكننا أن نقول هنا إن ليس ثمة تفسير منطقي لهذا كله... وكذلك يمكننا أن نقول أن روايتنا السابقة ل «أحداث» الفيلم، لا تكفي لأخذ أية فكرة شاملة عنه. فنحن هنا، في نهاية الأمر أمام فيلم بصري يرتبط بلغة سينمائية، كانت شديدة الحداثة في ذلك الحين (1966)، لغة تجمع الصورة والموسيقى والايماء، وسط لندن التي كانت في تلك السنوات (سنوات البتلز بخاصة) مدينة صاخبة تبدو وهمية في اندفاعاتها نحو مستقبل غير مضمون. ولعل من الأمور التي نلاحظها في هذا الفيلم قلة عدد الحوارات، وسيطرة مخرجه على أداء ممثليه الايمائي في معظم الأحيان، مع تقطيع توليفي مدهش، اضافة الى هذا الموضوع المنتمي الى ما كان يسمى حينها «ما بعد الحداثة». ولعل هذا كله ما جعل نقاداً كثراً يرون أن هذا الفيلم ساهم بوضع السينما نفسها في طليعة النشاطات الابداعية المستقبلية، وكان من هؤلاء اندرو سارسي، كبير النقاد الطليعيين الأميركيين، وزميله آرثر نايت يقولان أن «بلو آب» يحقق في «سينما اليوم ثورة لا تقل أهمية عن تلك التي حققتها من قبله أفلام مثل «المواطن كين» و «روما مدينة مفتوحة» و «هيروشيما يا حبي». حين حقق انطونيوني (1912 - 2007) هذا الفيلم، كان يعيش ذروة مجده، بعد أن بدأ الباحثون، وجمهور السينما النخبوي بشكل عام، يخرجونه، من الاطار، الضيق عليه، لتيار «الواقعية الجديدة» ليعطوه فرادة فنه السينمائي وعلاقته بهذا الفن. صحيح أن هذا كان تحقق له في معظم أفلامه السابقة مثل «المغامرة» و «الصرخة» و «الليل» و «الصحراء الحمراء»... لكنه الآن كان قد بدأ يتخذ طابعاً أكثر يقيناً، وغير سجالي، سوف يسيطر على كل ما سيحققه بعد ذلك. [email protected]