كما كان متوقعاً جاء الاحتفال مختلفاً. لم تكن هناك عائلات من «الإخوان المسلمين» اعتادت من قبل اصطحاب أطفالها ومأكولاتهم في وسط الميدان مكبرين ومنشدين ذاكرين فضل الله عليهم. ولم يكن هناك سلفيون يحورون شعار الثورة من «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» إلى «عيش، حرية، شريعة إسلامية». ولأن المناسبة صادفت يوم الاثنين ولم تسبقها جمعة مليونية «قندهارية» (مثلما حدث في مثل هذا اليوم في العام 2011)، فلم تلق مليونية سابقة بظلالها على وقائع الاحتفال. كما أن قناصي العيون والمصوبين على الصدور ومطلقي الخرطوش لم يتواجدوا في مقر الاحتفال في شارع محمد محمود المتاخم لميدان التحرير. رايات سود، لكنها ليست «رايات الجهاد»، بل علامة الحزن ودليل الغم، ونعوش محمولة، لكنها لا تحمل جثامين، بل تحمل مضامين ثورية ضلت طريقها، ولافتات ثورية طغت على الشارع التاريخي لا تنص على شعار الثورة، بل تردد أقوال مواجهات محمد محمود المأثورة: «جدع يا باشا! جت في عينه»، وهي العبارة التي رددها أحدهم لضابط شرطة كان يصطاد عيون المتظاهرين، و «كانوا ديابة وكنا أسود» مع إعادة تدوير لافتة «لما الرجالة ينزلوا بيسيبوا الجماعة في البيت»، في غمز من قناة «الإخوان». جماعة «الإخوان» جاءت على رأس فعاليات إحياء ذكرى مرور عام على أحداث محمد محمود الدامية التي راح ضحيتها نحو 40 شهيداً، إضافة إلى آلاف المصابين، إن لم يكن فعلياً من خلال حضور لأعضاء الجماعة أو محبيها أو مريديها أو مؤيديها، فمن خلال إحياء الذكرى بمحاسبة رمزية لهم، لأنهم في مثل هذا اليوم فضلوا المضي قدماً في معركة الانتخابات سيراً على دماء الشهداء. ألوان الطلاء الحمراء التي سكبها الشباب ممن توجهوا إلى الشارع الأشهر المتفرع من ميدان التحرير ألبت مواجع اليوم البغيض، فبينما كان محبو «الإخوان» يهتفون قبل عام: «علم علم على الميزان (الرمز الانتخابي للجماعة)، الميزان هو الكسبان»، كانت دماء الشباب تسيل بطلقات الخرطوش وصدورهم تختنق بقنابل الغاز وقلوبهم تحترق على جثامين زملائهم التي كان عناصر الجيش والشرطة يلقونها إلى جوار القمامة في الميدان. ويوم أمس وجد الميدان نفسه واقعاً في حيرة شديدة بين مؤيد لإحياء الذكرى التي تعد علامة فارقة في مسار الثورة التي قسمت أهل الميدان بين ثائر مصر على المطالبة بعدالة لم تتحقق، وآخر اكتفى بما تم تحميله واقتنص فرصة ذهبية للوصول إلى الكرسي. ولأن الكرسي أثبت بالحجة والبرهان أنه لم يعد أبدياً، بل بات مضاداً للالتصاق، فقد انتشرت دعوات «فايسبوكية» وتغريدات «تويترية» بين إعلان عن خريطة المسيرات ودعوات للاحتشاد وتذكير بأحداث وشهداء ومصابين يتعرضون لخطر النسيان. وبين مشاركات غاضبة معلنة «19 نوفمبر ثورة غضب. شارك. انشر. احشد بغباء» وتذكير رقيق برفيق مات وفتيات وقفن وقفة بمئة رجل في هذا الشارع في الأمس القريب وبتن اليوم مطالبات بالعودة إلى جحور الظلام، عادت وزارة الداخلية لتحتل اهتمام شباب مصر من الثوار الأصليين، فبين تصريح أمني بأن الأجهزة الأمنية لم تتلق طلبات خاصة بتنظيم تظاهرات أو مسيرات، وتأكيد على حرص وزارة الداخلية على التواصل مع القوى الثورية والسياسية للتعبير «السلمي» عن المناسبة، وتنويهها بأنها لاحظت وجود دعوات على «فيسبوك» للتجمع «والتحريض على التعدي على المنشآت الشرطية»، وتحميل الداعين لتلك التظاهرات التي «تتسم بعدم السلمية» مسؤولية ما قد يحدث، تكشف بالذكرى الأولى لأحداث محمد محمود أنه على رغم مرور عام كامل إلا أن مخاوف العام الماضي سارية المفعول للعام الجاري، والكراسي تظل جاذبة، والثورة ما زالت مستمرة. وتأبى كل تفصيلة كبيرة كانت أو صغيرة أن تمر في مصر من دون طرافة وإن كانت محملة بالكآبة. فقد ابتكر نشطاء «تويتر» هاشتاغ فريداً من نوعه ومتصلاً بأحداث محمد محمود لتكريم أصحاب الدراجات النارية الذين لعبوا دوراً مركزياً في نقل الجرحى والمؤن خلال الأحداث الدامية، فبين «عمري ما أنسى موتوسيكلات محمد محمود» و «موتوسيكلات في خدمة الثورة» و «المجد للموتوسيكلات»، غرد أحدهم مختصراً المسألة: «كانت ملحمة تاريخية لن ينساها كل من شارك فيها: موتوسيكلات الإسعاف، بخة الخميرة، مسعفو الخل، حاملو الطوب» في قصص لن يفهمها إلا جيل محمد محمود.