من عدوان 2008 على غزة الى العدوان الحالي لم تتغير الوحشية الإسرائيلية. تتصرف حكومة بنيامين نتانياهو كمحارب مُدجج أعمى. تغرف من قاموس قديم. وترفض القراءة في ما تغيّر حولها. لكن اي متابع للأحداث يشعر بأن الحرب الحالية على غزة تكاد تدور في منطقة أخرى. ليس بسيطاً ما شهدته مصر التي لا تستطيع اصلاً الاستقالة من مصير غزة. الأمر يتعدى الترابط الجغرافي الى حسابات الأمن والاستقرار والدور. مصر الآن في عهدة النظام الذي أنجبته الثورة. وهي في عهدة «الإخوان» استناداً الى ما افرزته صناديق الاقتراع. لا تستطيع «حماس» التعامل مع مصر محمد مرسي كما كانت تتعامل مع مصر حسني مبارك. لا تستطيع ولا ترغب. كشف العدوان الإسرائيلي على غزة ان «الربيع العربي» الذي انفجر ضد الاستبداد الداخلي والفساد لم يُسقط القضية الفلسطينية من لائحة أولوياته. العدوان الحالي أعطى المنخرطين في هذا الربيع فرصة التأكيد أن الظلم المتمادي اللاحق بالفلسطينيين حاضر في وجدانهم وسيتقدم موقعه في سياساتهم. انها منطقة تغيرت. ويمكن القول بصورة أدق إنها تتغير. لا مبالغة في القول إن «الربيع العربي»، وعلى رغم ما يواكبه من غموض ومخاوف ومحاولات توظيف، قد يكون الحدث الأهم في الإقليم منذ انتصار الثورة الايرانية. في القراءة لا بد من الالتفات الى أحوال الدولتين اللتين اطلقتا هجوم الممانعة في الفترة الماضية. إيران تنزف بفعل العقوبات الاقتصادية عليها ودورها يتآكل في المنطقة بعد اصطدامه ب «الربيع العربي»، وتحديداً في حلقته السورية، وبرنامجها النووي قيد متابعة صارمة من الدول الغربية. الحلقة العربية في محور الممانعة وهي سورية تآكلت سيطرة نظامها على ارضها وتآكلت شرعيته عربياً واسلامياً ودولياً وان احتفظ بأوراق مقاومة داخلية. كانت حركة «حماس»، بقيادتها المقيمة في سورية، الحلقة السنّية في محور الممانعة الذي يضم ايران وسورية و «حزب الله». كانت الحلقة الذهبية ايضاً لأنها أوصلت صواريخ الممانعة ونهج الممانعة الى قلب الأرض الفلسطينية. كان الضلع الفلسطيني في هذا المحور يضم، الى «حماس»، حركة «الجهاد» الاسلامي التي كانت أقرب إلى روح البرنامج الإيراني مع الالتفات الى أن فاعليتها في زمن التوتر تفوق بمرات جماهيرية حضورها في الشارع الفلسطيني. لعب الضلع الفلسطيني في محور الممانعة دوراً كبيراً في العقدين الماضيين. ساهم في استنزاف الآمال التي علقت على اتفاق أوسلو. وفي عسكرة الانتفاضة الثانية. وفي استنزاف هيبة سلطة ياسر عرفات وبعده سلطة محمود عباس. ساهم بعملياته الانتحارية في دعم موقع أعداء السلام في الشارع الإسرائيلي. عبره امتلكت ايران وسورية حق النقض ضد اي تصور للسلام الفلسطيني - الإسرائيلي والعربي - الإسرائيلي. فاجأ «الربيع العربي» النظام السوري في حين استشعرت قيادة «حماس» المقيمة في عاصمته نكهة إخوانية لهذا الربيع. حاولت القيادة التغلب على إحراجات الجغرافيا بنصائح ووساطات لكن العاصفة كانت أقوى. رفضت اتخاذ موقف ضد تصريحات الشيخ يوسف القرضاوي المؤيدة للحراك الشعبي السوري ورفضت الوقوف ضد هذا الحراك. كان من الصعب على خالد مشعل الاقتداء ب «حزب الله» المتصالح مع طبيعته ومع موقف المرشد في إيران. اختارت «حماس» الهجرة من دمشق والتصالح مع طبيعتها والتطابق مع موقف المرشد الإخواني المقيم في مصر. هاجرت قيادة «حماس» من دمشق وأقفلت السلطات هناك مقراتها بالشمع الأحمر. في ظل هذه التبدلات الكبرى جاء العدوان الإسرائيلي الجديد على غزة. دكت الطائرات الإسرائيلية بوحشية اهدافاً في القطاع. ردت «حماس» و «الجهاد» باستهداف تل ابيب والقدس. لكن اللافت ان «حماس» سارعت الى إبلاغ الراغبين في التهدئة أن عنوان التفاوض موجود في مصر. ولم يتوقف هاتف مرسي عن الرنين. ولا خيار امام مرسي غير السعي سريعاً الى التهدئة. لا يستطيع رؤية «حماس» تُسحق في غزة. لا يستطيع ايضاً المجازفة بعلاقات مصر الدولية وعائداتها. لا يستطيع المجازفة بتجربة «الإخوان» في قيادة مصر. أغلب الظن أن إسرائيل التي قصفت مصنع السلاح في السودان تحاول تحييد غزة وصواريخها. ربما كانت تسعى الى صيغة شبيهة بما انتهت اليه «حرب تموز» في لبنان. أي تمتنع إسرائيل عن شن الغارات ويمتنع «حزب الله» عن إطلاق الصواريخ وتحريك الجبهة. وقد صمدت هذه الصيغة منذ ست سنوات. طبعاً مع الالتفات الى أن ابتعاد «حماس» عن مرشد للاقتراب من آخر لن يكون شديد السهولة داخل الحركة ولا في العلاقات مع التيارات الاخرى في شوارع غزة. وفّر «ربيع الإخوان» ل «حماس» عمقاً كانت تفتقر اليه لكنّ للسباحة في هذا العمق ثمناً لا بد من دفعه.