للمرة تلو الأخرى، يعلن قادة "حماس" في الخارج بأن المقاومة - أي عناصر حماس - بخير، ففي خطابه المتلفز الأخير الذي نقله التلفزيون السوري - الرسمي - أعلن خالد مشعل بأن عناصر "حماس" وغيرها من بقية الفصائل، يبدون مقاومة شرسة، وأنهم استطاعوا مفاجأة العدو بحيث باتوا يحققون الانتصار تلو الانتصار، بل ذهب رئيس المكتب السياسي للحركة إلى أن حركته لن توقف إطلاق الصواريخ حتى يرضخ الإسرائيليون للشروط الحمساوية. غني عن القول أن هذا الكلام التعبوي معد للاستهلاك المحلي والخارجي، ولكنه مجانب للحقيقة، بل ومؤذ للمشاعر لأسباب عديدة، لعل أبرزها أن الحركة التي يعلن قادتها شروطهم ويظهرون على قنوات التلفزة العربية والأجنبية بمعدل أربع مرات لكل مسؤول، يرفضون وقف إطلاق النار حتى يحققوا أهدافهم كحركة، بينما يتساقط العشرات من المدنيين الأبرياء يوميا تحت القصف الإسرائيلي دون تمييز. لقد سئل أسامة حمدان - ممثل الحركة في لبنان - على احدى القنوات العربية بعد أن ساق شروط حركته على المبادرة المصرية، وكذلك قرار مجلس الأمن 1860، عن خطة "حماس" في حال رفضت إسرائيل تلك الشروط، فرد: الحركة ستواصل المعركة حتى يرضخ العدو لشروطنا. لا شك، أن هذا المنطق الذي يبرر التضحية بالمدنيين، وسوق الأبرياء إلى الانتحار الجماعي، هو أمر طبيعي بالنسبة للحركة. بيد أن ذلك يجب أن يكون مرفوضا عربيا وإسلاميا ودوليا، إذ حقن دماء المدنيين والأبرياء ضرورة مقدمة على تحقيق أي هدف سياسي أو حزبي. الحركة تكابر بشكل غريب، فهي تهاجم الدول العربية المعتدلة كالسعودية ومصر، وترفض قرار مجلس الأمن الذي يدعو إلى الوقف الفوري لإطلاق النار، وتُفرّغ المبادرة المصرية بالقول ان فيها عناصر لمصلحة إسرائيل، وفوق ذلك - وهو الأهم - أنها لا تضع سقفا محددا للتضحية بفلسطينيي القطاع، فهي لن تسعى للتهدئة مع العدو حتى ولو تضاعفت أعداد القتلى من المدنيين إلى أضعاف ما هي عليه اليوم، أو بحسب عبارة رئيس الوزراء المقال إسماعيل هنية "حتى لو أبادوا غزة بأكملها"، بل إن منطق الحركة بحسب خطاب مشعل الأخير يقول بأنهم سيتركون الرقم يرتفع حتى يحصلوا على انتفاضة ثالثة في الضفة ضد السلطة الفلسطينية وليس إسرائيل، وحتى يضغط الرأي العام الدولي على إسرائيل لوقف العدوان (وقف إطلاق النار) من جانب واحد. لو أجرينا حسبة صغيرة لوجدنا أن الحركة تقامر وتفاوض بأكثر مما تملك، ولعل حزب الله - ومن وراءهم السوريون والإيرانيون - قد أوهموا الحزب أنه يستطيع الانتصار فقط بمجرد إعلان ذلك وتصديقه - تماما كما فعل حزب الله في 2006- بيد أن ما فاتهم هو أنهم يخسرون بشكل كبير بالمعايير (المادية) في هذه الحرب. حتى كتابة هذه السطور ( 12يناير) سقط أكثر من 900قتيل وقرابة 3600جريح، وبحسب تقارير الأممالمتحدة فإن ثلث تلك الأرقام هي مدنية - نساء وأطفال - ، أي أن الحركة التي تمتلك 20إلى 25ألف عنصر قد فقدت 600من مقاتليها، وجرح ما لايقل عن 2400، بينما تقول وزارة الدفاع الإسرائيلية أنها قتلت ما لايقل عن 300من حركة "حماس". دعونا نقول ان هذه الأرقام غير دقيقة ولنفترض أن نصفها فقط صحيح، أي أن لدينا 1500من عناصر الحركة سقطوا ما بين قتيل وجريح وهذه الأرقام ليست صغيرة بالنسبة لجيش نظامي فكيف بحركة مسلحة ناشئة تخوض أول حروبها الأرضية. أمر آخر، ولعله الأهم، صواريخ حركة "حماس". لا شك أن تلك الصواريخ كانت مزعجة بالنسبة للإسرائيليين، في بداية الحرب كانت "حماس" تطلق ما بين 80إلى 70صاروخا يوميا على المستعمرات الإسرائيلية، في الوقت الراهن، لا تطلق الحركة سوى 25إلى 20صاروخا في اليوم، وبمدى لا يتجاوز 25كيلو مترا. إذا أخذنا بالاعتبار أن إسرائيل احتلت الأراضي الواقعة بين حدود القطاع وبين مدن القطاع، فذلك يعني أن "حماس" ما عاد بوسعها التعويل على صواريخها. في تصريح لأحد زعامات الحركة لجريدة لوس أنجلس تايمز ( 12يناير)، قال ان الحركة لم تفقد إلا 30من مقاتليها، والسؤال من هم هؤلاء الضحايا الذين يسقطون، إذا كان واجب المقاومة هو حماية أهل غزة، فلماذا تختبىء بين المدنيين، ويتوراى زعاماتها في الأقبية حفاظا على أرواحهم بينما يقتل المدنيون الأبرياء بلا حد. منطق لا يمكن تفسيره بالمعايير الطبيعية، بل هي تضحية بالناس لتحقيق أغراض سياسية خاصة لهذا الحزب. تخيلوا حتى كتابة هذا المقال لم يسقط إلا 10جنود إسرائيليين، والمقاومة تقول انها تحقق انتصارات ربّانية لم تسجل في تاريخ الكفاح الفلسطيني. المعادلة باتت واضحة، هذه حرب تخدم أطرافا محددة، ويستخدم فيها الفلسطينييون كثمن لتحقيق أهداف الآخرين. زعيم حزب الله الذي ألقى أكثر من أربعة خطابات تحريضية ضد الدول العربية، وخون فيها الجميع، وضلل بها الكثيرين لم يقدم أي شيء يذكر للفلسطينيين، بل إن حزبه يستخدم الورقة الفلسطينية (اللاجئين) لعقد تحالفات مع العماد ميشال عون وحزبه، وحين أطلق صاروخ (طائش) من الجنوب سارع الحزب لإنكاره والبراءة منه، وهو الذي كان يدعو لإشعال جبهة رفح على الجانب المصري، والجيش المصري للانقلاب على الحكومة المصرية. أما إيران التي تسجل آلاف الانتحاريين لنصرة فلسطين، فأعلن مرشدها أن إيران ليس بوسعها عمل شيء للفلسطينيين وأمر أتباعه بالعودة لبيوتهم من المطار. ولعل سوريا التي تعمل على تخريب المبادرة المصرية، والتقليل من أهمية القرار الدولي الذي عمل الوفد العربي على إنجازه، ما تزال مستمرة في التشويش على خطط التهدئة، بل وخنق أي محاولة لفريق "حماس" في الداخل على الموافقة على التهدئة. كيف يمكن تفسير ظهور مشعل في ذات اليوم الذي أعلن فيه بعض قيادي الحركة - الذين وصلوا مصر - على اقترابهم من التهدئة من رفضه لكل الحلول السلمية والمبادرات وإصراره على الاستمرار في المعركة. اليوم، بات للمحور الإيراني/السوري جبهتان جاهزتان للاستخدام في أي وقت، وهم سيصرون على أن لا تقبل "حماس" أي وقف للنار حتى تعطى صلاحية - ولو جزئية مع المصريين والأوروبيين - على معبر رفح. أي أن بوسع إيران وسوريا تعزيز مواقفهما التفاوضية في ملفات مثل البرنامج النووي الإيراني، والمحكمة الدولية، والعقوبات، عبر التحكم في هاتين الجبهتين: الجنوب اللبناني وقطاع غزة. بعض المحللين من أمثال والي نصر وفريد زكريا يجادلون بأن "حماس" ليست ملزمة بهذا التحالف مستقبلا، ونحن نتمنى ذلك استقلالا للخيار الفلسطيني، ولكن السؤال المهم: هو ما الذي يجبرهم على التخلي عن هذا التحالف، أو تقديم جبهتهم وسيلة لتحقيق مكاسب إقليمية. الجواب أننا لا نعلم بعد، ولكن المؤشرات لا تبشر بخير، لأن المقاومة مشغولة بحماية أفرادها وتقديم الغزاويين قرابين بين يدي النصر الإلهي. إذا لم يدرك خالد مشعل بأنه ليس حسن نصر الله - حتى ولو حاول - ، وبأن "حماس" ليست حزب الله، فإننا مقبلون على مستقبل مظلم. وإلى أن نعرف الجواب على ذلك ... كل عام والمقاومة بخير.