من لوحة للفنان الفلسطيني الراحل ناجي العلي، يخرج حنظلة إلى رواية ابتسام ابراهيم تريسي «مدن اليمام» ليصير أحد رواتها، ابتداءً بما يكتبه للكاتبة عن رحلته إلى قلب نهر العاصي، فيسرد قصة الجندي الخضر الذي يعمل في نقطة مراقبة. وإذ يعود من غيبة قصيرة ليشتري السجائر من «براكة» نهبها الجنود، يفاجئه مصرع رفاقه إلا عامل اللاسلكي الذي يقتله هو، وقد حسبه من المهاجمين. هنا يبدأ تناسل الحكايات، وهو ما يشكل سمة كبرى لروائية «مدن اليمام»، فتأتي حكاية العسكري أبو الزلف الذي ربّته أمه على الثأر لأبيه شهيد الجولان. وفي واحد من مشاهد الأسطرة والفانتازيا الجميلة الوافرة في الرواية، ترقص والدة هذا العسكري مع بوطه، بعدما تملأ البوط بورود الجوري. وبالعودة من هذه الحكاية الفرعية إلى الحكاية الأم، حكاية الخضر، تشتبك طفولته بعسكريته. فمن الماضي يحضر «اليمام» الماسي – وهذه أولى ذرائع عنوان الرواية – كما تحضر صورة صبي اغتصبه مما تسبب في مصرع شقيقة الصبي، مخلفة للمغتصِب رائحة الخزامى التي تستفيق في فراره من نقطة المراقبة المدمرة، فإذا بصبي يلهب سادية العسكري فيقتله ويغتصبه ويفقد سلاحه ويقع في غيبوبة، يستفيق منها في بيت عم الصبي، حيث يسعفه طبيب، ويكشف الكلب فعلته، ويخشى أن يكون وقع بأيدي «العصابات». وسرعان ما يتعرض البيت للمداهمة، ويرى الخضر كيف تُغْتصَب يمامة – العنوان مرة أخرى - ويرجّ كل ذلك ما جُبِل عليه من السجود لمن يعرفون وحدهم مصلحة الوطن. ويحدّث حنظلة أيضاً عن المجند المشارك في المداهمة، لكنه لا يجرؤ على تنفيذ أو رفض أمر قائده باغتصاب يمامة، بينما يستذكر حكايات أمه عن مجزرة مدينته حماة عام 1982، ويمتلئ بالأصوات المطالبة بالثأر والانتقام لعمّته وخالته وأقاربه جميعاً. وكما في أفلام الأكشن يباغت ملثم مع المجند مجموعة المداهمة ويقضون عليها. رواية ورواة تتولى الكاتبة السرد بصراحة مرة بعد مرة، فتنافس حنظلة وغيره من رواة الرواية. وسينادي صنيع الكاتبة هذا السيرةَ الروائية مرة، والروايةَ السيرية مرة. وأول ما يتّقد من ذلك هو الأمومة، عبر حضور نور حلاق ابن الكاتبة، وأحد الناشطين والمعتقلين منذ بداية الزلزلة السورية. وبسبب ذلك تجلى حضور نور في الرواية غالباً في الكتابة الفايسبوكية، مثل حضور حنظلة ورواة آخرين للرواية، كما سنرى. وقد كانت زيارة الكاتبة لابنها المقيم في دمشق هي ما جاء بحنظلة إلى الرواية عبر المصنف الذي قدمه جار نور الفلسطيني للكاتبة. وفي المصنف لوحة مهداة الى الجار من ناجي العلي، آلت إلى الكاتبة بعد وفاة الجار. وكان نور قد أوصى جاره، بعدما اقترح عليه أن يحكي لها ذكرياته في حيفا: «حاذر منها، فهي لا تهمل تفصيلاً تسمعه إلا وتستخدمه في كتاباتها». يكتب نور الحاضر الغائب لأمه أنه مضطر لإغلاق صفحته، إذ: «كل ما حولي تافه ولا يستحق المتابعة». وفي نقده الصفحات الفايسبوكية يكتب أنها «تبدو له كسيف دونكيشوت الخشبي، وفرسانها مثله». وإذا كان نور يسمي ما حوله بالفوضى الخلاقة، فهو يكتب لأمه أن هذه الفوضى تمنحه إحساساً بأنه خارج سلطتها هي. وفي موقع آخر يكتب لها مسائلاً – معاتباً: «متى ستكفّين أيتها الحبيبة عن اعتباري طفلاً لا يعرف ماذا يفعل؟». وفي متابعة لموقف نور النقدي، يكتب لأمه منذ صيف 2011: «لا تريدين أن تصدقي أن هناك من يدعو فعلاً لتحويل خط الثورة... بل لا تريدين أن تصدقي أن هناك بعض العصابات، وبعض الإسلاميين الذين يشوهون وجه الثورة. وكانت الأم قد كتبت على صفحتها تعقيباً على الدعوات آنئذٍ إلى الحوار الوطني: «لا تحاور... الدم بالدم»، فكتب لها نور متسائلاً: «أهو الهوس بالموت؟ لماذا يندفعون إليه هكذا؟ لماذا لا يتريثون قليلاً؟». بدرجة أكبر، ومبكراً، يلون اليأس شخصيات أخرى في الرواية. فحنظلة الذي لا يستوعب أن سورياً يقتل سورياً مثله، ويستغرب» أننا عشنا حياتنا في خديعة المواطنة والممانعة والصمود والتصدي» يجهر بأن نوبة يأس تغمره أحياناً، وتجعله يكفر بالحرية ويتساءل: «هل تستحق كل هذا الثمن الذي ندفعه؟». وهذا هو المخرج نورس الذي اعتقل بسبب فيلمه عن الديكتاتور يجهر ملتاعاً بأنه كره كونه سورياً، وصدمه سؤال الهوية الذي كثيراً ما حاصره في الفترة الأخيرة: من أنت؟ ماذا يعني لك الوطن؟ بحدس الأم الذي لا يخطئ، قدرت اعتقال نور. وستفسح الرواية لذلك، وستفتح أكثر لما كابده نورس في سجن المسلمية وفي غيره من السجون والمعتقلات التي تنقّل بينها. وإذا كانت الرواية في هذا الخط تميل إلى أن تكون واحدة من روايات السجن السياسي، فقد بدا أن التدقيق قد فاتها أحياناً، كأن تذهب إلى أن في الزنزانة مئتي معتقل، فتخلط بين المهجع والزنزانة التي لا يتكدس فيها ربع ما يتكدس في غرفة متوسطة. واقع وتخييل تثير رواية «مدن اليمام» إشكاليات جمة وبالغة التعقيد، مما يتعلق بالزلزلة السورية، مثل الطائفية، والانتقام أو الثأر لمجزرة حماة 1982، وغير ذلك كثير، حيث تتجدد الأسئلة التليدة الطريفة، كما مع كل رواية جديدة عن الزلزلة السورية عن أفضلية الفعل على الكتابة، وعن أفضلية الانتساب إلى المرجع الواقعي على التخييل، فضلاً عما يمكن أن يشتبك بذلك من إشكالية الشهادة على الراهن والسيرية... تنادي رواية «مدن اليمام» كل ذلك، ولكن بدرجات. فالرواية تتصدر بالإعلان عن مصدرها: نور حلاق ابن الكاتبة، مع صديقه. فراس. وفي سعيها إلى تأكيد المرجعية الواقعية، وبالتالي تأكيد الوثائقية، سيلي ختامَ الرواية ما تعنون ب «خارج النص الروائي»، وفيه متابعة لمصائر شخصيات الرواية المذيّلة بتاريخ إنجازها (31/12/2012). ولأن الرواية تخييل مهما يكن فيها من السيري أو الوثائقي، فإن حنظلة ما زال – بعد انتهاء الرواية – يرى ويكتب كل شيء، وهو القادم من لوحة ناجي العلي ليتولّى الجميل والحاسم في روائية «مدن اليمام». بينما تظل أفضلية الفعل على الكلمة، أي أفضلية (المشاركة في الحرب أو الثورة على الكتابة) تطل برأسها، كما في تعليق الكاتبة على ما تقرأ في أوراق الفلسطيني «فأي كلمات تعبّر عن آلام هؤلاء الذين يقضون تحت التعذيب؟ شعرت بتفاهة وضآلة كلماتي». وحين تشارك الكاتبة للمرة الأولى في تظاهرة (28/12/2011) على رغم قناعتها بأن دورها ليس في الشارع، فإنها تنسى فضول الكتابة. وسيعبر عن حال الكاتبة ما يرسله المخرج نورس إذ يقول: «يبدو أن من المفيد أن تحول المخيلة إلى واقع أحياناً، بدلاً من تحويل الواقع إلى مخيلة، كي نلمس بأحاسيسنا كلها الفرق بين قسوة التجربة ورفاهية المخيلة». يبدو أن الرهان الأكبر لرواية «مدن اليمام» قد كان على هذا التحويل المزدوج. وقد نال من هذه المحاولة ما نتأ من سلطة الساردة التي – وكمثال من أمثلة - جعلت طفلاً لاجئاً في مخيم الزعتري خطيباً مفوّهاً، وكذلك ما نتأ من اللجوء إلى الملخصات السردية تحت ضغط المادة السردية الغزيرة. كما نال من هذه المحاولة ما نتأ من المبالغات والتكرار في مشاهد الاغتصاب والتعذيب كما في قصص العسكري خضر وست الحسن والرائد، وفي قصتي المبروك محمود والمجنونة التي صادفها الطبيب في معمل السكر قرب جسر الشغور. غير أن الفن الروائي البديع سرعان ما كان يلتف على كل هذه النتوءات، ومن ذلك: تناسل الحكايات، وتعدد الرواة، واشتباك ألسنتهم من دون أية شاخصة ترشد القارئ، وبناء شخصيات محمود المبروك ومجنونة معمل السكر وست الحسن ونورس والكاتبة صباح، وبخاصة ابتداع وبناء شخصية حنظلة. ولعل الأهم هنا أن نور قد جاء شخصية روائية بامتياز، وأن الكاتبة في الرواية قد قاربت ذلك، على رغم فخاخ السيرية والوقائعية.