ثلاثة أيام وأنا أعانق الطائف صباحاً، حدثتكم عن اليوم الأول، يوم تأملت الوجوه الغريبة الجميلة وهي تصنع صباحات المدينة، وواصلت الاستماع إلى العصافير، ورؤية الأشجار، وشم، أو هي محاولة شم عبق الأمكنة. العدسة التي ضمنها «جوبز» أجهزته الذكية أظهرت مجموعة بيوت ومبانٍ تاريخية ناصعة الألوان، على رغم أنها تبكي انعدام إحساس الناس بها، صوّرت مجموعة أحسست بقدمها، وشاركت بها الأصدقاء في كتاب الوجوه «فيسبوك»، فجاء الثناء والإعجاب وبعض الاستغراب أن هذه الثروة من الجمال موجودة، ويغفل الناس عنها!استدركت هيئة السياحة وأخذت بعض المواقع، وهذا حسن، لكن بقيت بيوت وجدران كثيرة لم تصل إليها، أو ربما لم تصل إلى أصحابها، واستبشرت بلوحة أتمنى ألا تكون دعائية، تعلن عن مشروع لتطوير المنطقة التاريخية والمحافظة عليها. لعل هذا المشروع يستدرك ما فاتنا، فلقد أخطأت بلدية سابقة للطائف وأزالت حي السليمانية بالكامل، وقد كان مليئاً بالكنوز المعمارية، وبحكايات التاريخ، وقصص الأجداد، ونكهة الطائف المأنوس. أعتقد أن بعض البيوت نسيها أصحابها، ورثة أخذتهم الدنيا إلى مشارق الأرض ومغاربها، أو ورثة لا يعرفون من مبنى أجدادهم سوى ذلك الدكان المؤجر تحته، يستقبل كل يوم دموع «المشربيات» من فوقه حزناً على فراق حسناء ربما أطلت ذات صباح تستنشق رائحة «الحبق» من حوضها الصغير الذي يرويه المطر. لا يكفي أن نسجل بعض المواقع، ثم ماذا؟ نريد أن ندخلها ونراها من الداخل، نريد أن نعرف كيف عاش أهلها، وماذا قدموا لمسيرة تحضّر أهلهم ومدينتهم، نريد أن ندفع تذاكر كما نفعل في أوروبا، لنرى عينات من ملابسهم، عطورهم، وأواني طعامهم، نريد صوراً ورسومات تجعل حديثنا لأبنائنا، ليس فقط حديثاً عن قوة الأحجار المستخدمة في البناء، بقدر ما هو حديث عن قوة الإنسان الذي طوّع هذه الأحجار لتكون جمالاً يحتوي جماله. من أغرب ما أفرزته الطفرة المالية، أن قلب أية مدينة يتعرض للهجر من أهلها وساكنيها، وفي معظم مدن العالم، يكون السكن في قلب المدينة مكلفاً جداً مقارنة بأطرافها، ولدينا ترتفع قيمة المسكن كلما ابتعد عن تاريخ المدينة، هل هذه لعبة عقارية صادفت هوى في نفس مجتمع يهرب من ثقافته؟! أعود إلى مبانٍ صغيرة حزينة في قلب الطائف، وقلب كل مدينة في بلادنا الحبيبة، وأنشد صحوة ثقافية تجاهها، صحوة لن تؤثر سياحياً واقتصادياً فينا، لكنها ستؤثر إنسانياً، وستجعل لنا مرجعية اجتماعية نعرف من خلالها أي الحلقات فقدنا ونحن نسير في تطورنا الذي كشفت سلوكيات كثيرة لنا أنه لم يكتمل، وأن بعضاً من ملامحه تشوّه لأن الغالبية اهتمت بالقشور، وبعض القشور مفيد، لكن اللب دوماً هو الثمرة، وهو البذرة التي تجدد حياتنا. [email protected] @mohamdalyami