وحدي أتجول في الشقة، أبحث عن مصدر الحركة الغريبة التي استيقظتُ عليها، أمان هش يفترش المكان, وأثاث يبدو أكثر رثاثة وقدماً، أما غرفتها فكما تركَتْها، فراش وحيد مهجور، وملابس مبعثرة على المقعد وكتاب مفتوح على المكتب، وحذاء صغير حزين ينتظر. عشرون يوماً وأنا أتطلع عبر فُرجة صغيرة من حديد نافذة المطبخ إلى السماء، أدعو الله كما كنت أفعل وهي صغيرة حين تباغتها تشنجات الحمى. عند حافة السرير وجدتُها مقعية، عيناها تلمعان في غبشة الصبح الوليد، تنظر إليّ نظرة اعتذار لأنها أيقظتني، لا بد أنني غفوت من دون أن أغلق النافذة، فتسلقتْ فروع شجرة البونسيانا العجوز ذات الورود الحمراء. في المطبخ كانت تلعق الزبادي بلسانها الوردي الصغير وتنظر إلي بامتنان، وأمام غرفتها المفتوحة جلست القرفصاء على السجادة تلعق فمها وتخر بسعادة، وبينما أحكي لها عن بنت صغيرة تشبهها، كانت تغلق عينيها وتفتحهما مقاومة النعاس. «مبروك بنت زي القمر». قالت لي الممرضة وهي تناولني قطعة لحم صغيرة هشة، بشعر أسود غزير وعيون مغلقة، في قماط أبيض. رنوتُ إلى الغرفة الخالية، فهاجمتني رغبة ملحة في البكاء، وخوف فادح من فقدانها مرة واحدة وإلى الأبد. رن جرس الهاتف فجأة، ففزعت القطة وقوست ظهرها في ترقب، بينما دفعتُ مقعدي المتحرك بفزع نحو التلفون. * حركة متوترة تجتاح الغرفة، ينقلونها برفق إلى «التروللي»، تدفعها بهدوء ممرضة في اتجاه المصعد. أمام الخط الأحمر أقف صامتاً بينما تغيب في ممر طويل خافت الضوء وراء الباب المرتد. لعشرين يوماً وهي راقدة في الفراش هادئة مستسلمة، تتحرك بحساب وتتكلم بحساب حتى لا تباغتها النوبة ولا تؤلمها الإبرة المغروسة في ذراعها دائماً، معزولة عن العالم الخارجي، لا تراه إلا من خلال زجاج مغلق، غرفة خافتة الضوء في عز الظهر، صامتة وموحشة، بينما تتوهج الشمس الحارقة أسفل المستشفى في الميدان الذي يموج بالحركة والحياة. للمرة الثالثة تأتيها النوبة هذه الليلة، يتركها الألم خامدة كأنما لا حياة فيها، في المرة الرابعة، كان النهار يشقشق، والوقت يقترب، وحين لاح لي أنها قد تكون المرة الأخيرة، لمستها، ومررت بإصبعي على حاجبيها ووراء أذنها بحب، ولثمت جبهتها وهمست لها «أحبك»، فتشبثتْ براحتي، وكان وجهها شديد البياض ومسحوباً، وعيناها السوداوان أكثر اتساعاً، فيهما شعور ملتبس، مزيج من المقاومة والاستسلام. وداهمني في هذه اللحظة يقين أنني لن أستطيع الحياة في دنيا تخلو منها. وحدي أقف الآن، يفصلني عنها خط أحمر، وممر طويل خافت الضوء، وباب مرتد، تعذبني نظراتها المستمرة إلى الخلف، وإغماضة عينها الأخيرة التي أغلقت على استسلام. * كنت في حاجة ماسة اليوم لأن أريح رأسي على صدرها، ولاح لي أنها ستتغلب على كل المعوقات وتأتي، لكنها لم تأتِ، والنافذة التي تركتُها مفتوحة طوال الليل، في الطابق العاشر، لم يدخل منها سوى الضوء، أغلقت عيني حين شعرت ببوادر النوبة، ألم خام، قاس، لا منقذ منه ولا رحمة. أفقت منها على أصابع تخمش وجهي، وثغر يطبع قبلة على رأسي، خطر لي أنها جاءت، لكنني فتحت عيني فوجدته هو، ما زال جالساً، يميل برأسه إلى سريري بعينين تملأهما الدموع. أمضى الليل جالساً إلى جوار السرير، وفي الصباح ضم يديّ على صدري، وطمأنني كأنه يعرف ما أريد، فأغمضت عيني وأدرت وجهي، وسار «التروللي» في طُرقة طويلة متراوحة الظلال، وأنا أنظر إليه، لكنهم عند الخط الأحمر، أشاروا له بالتوقف. انغلق الباب من خلفي، فحال بيننا، وبدا العالم من خلفي منفياً، لا وجود له، حتى الصورة التي أغمضت عيني عليها تلاشت حين انفتح في نهاية الممر باب آخر، من خلفه كان الضوء ساطعاً، وبدا أنني تحررت من ثقلي، وصرت أحلق كعصفورة، لا تؤرقني الرغبة في العودة.