لم يكن الميل للعتمة لديه مجرد رغبة عابرة، يستجيب لها عبر الجلوس في ضوءٍ شحيحٍ، فيما الستائر تحجب أيَّ نور يمكن أن يتسلل من الخارج. كان المشي في الزقاق المعتم يماثل لديه متعة الاستسلام للعدم، واليقين أن أيامه تشبه الخطوات الضيقة في الزقاق، نهايتها وشيكة، وستكون في مواجهة حائط أبيض مرتفع وسميك، وقدري أيضاً... حاول أن يفكك معادلة الميل للعتمة بمقاومتها، يترك النور مُضاءً، والشباك مفتوحاً وهو نائم، كي يصله ضوءُ وصخب الشارع، وفي وحدته تلك يحس أن الضوء المنبعث من اللمبة المعلقة في السقف يشبه أفاعي تمتد لتسحبه نحوها. يخاف ويغمض عينيه، هارباً إلى عتمته الخاصة، التي لن يفهمها أحد. في الليل، يركل بقدمه زجاجة بيرة، فتصطدم بالبرميل الذي تتدلى منه القمامة، يحدق في الأرضية القذرة ومجموعةٍ من الأولاد المشردين يجلسون على الرصيف في آخر الليل، وحين يجلس بقربهم يظنونه مثلهم أيضاً، لا يعرفون حاجته للبحث عن العتمة. حين يحكي لهم أن لديه سريراً، وأنه هارب من غرفة فيها ضوء كثيف وشباك عريض، لا يصدقونه... يتبادلون سخرية يعرفونها بينهم ويتركونه جالساً على الأرض ويمضون بعيداً. يوم صارحته «سهى» بأنها تحبه، رأى في عينيها ذلك الوميض، الذي يخيفه ويدفعه للهروب. لمعت عيناها السوداوان بسطوع، وبدا له اللمعان مثل خيوط تنطلق من عينيها لتكبله، فسارع بالفرار، تركها وحيدة. لم تفهم «سهى» لماذا فعل هذا؟ ولم تعرف أنه يحبها لكنه عاجز عن الاستسلام للوميض. ظلت كلما التقت به صدفة، في الشارع أو عند مدخل العمارة، تحني رأسها ولا تنظر نحوه، كما لو أنها أدركت أنه سيهرب من بريق عينيها، وكلما أوغلت هي في ابتعادها وعتمتها ازداد انجذاباً لها. أحبها لأنها ترتدي دائماً اللون الأسود، كانت الوحيدة من بنات الجيران التي تمتلك ضفيرة سوداء طويلة تنسدل حتى خصرها فوق سترة سوداء، أو لتلامس بنطالاً أسود. هل أدمن السواد والعتمة منذ أسدلوا عيني والدته ولبسوا عليها ثياب الحداد؟... كان في الخامسة من عمره حينها، وكان كلما أراد أن ينام في غرفة مضاءة قال له جده -وهو يطفئ الضوء-: «إن الخوف ضعف إيمان». هو في قلبه إيمان كبير بأن أمه الآن سعيدة هناك مع الملائكة التي ترافقها، لأن روحها كانت طيبة جداً، ونقية. لا يذكر من أمه سوى قامتها الطويلة الممتلئة، وصدرها الوافر بالحنان، لكنها مضت قبل أن يعرفها أكثر. في عامه الجامعي الثاني، قرأ له صديقه أبيات شعر من قصيدة لم يكن يعرفها. كانت الأبيات تقول : تثاءبَ المساءُ، والغيومُ ما تزال تَسِحُّ ما تسحّ من دموعها الثِّقالْ كأنَّ طِفْلاً بات يَهذي قبل أن ينام بأنَّ أمّه - التي أفاق منذ عامْ فلم يجدْها، ثم حينَ لَجَّ في السؤال قالوا له: «بعد غدٍ تَعُودْ...» بكى يومها. مضت أعوام ولم يعد يذرف الدموع، لكن « أنشودة المطر» أبكته في ما مضى، يوم صار يمشي في الطرقات وهو يردد: «أتعلمين أيَّ حزن يبعث المطر...» الفتيات ظننّ أنه يعاكسهن، أو أنه مخبول، يمشي على الأرصفة يكلم نفسه. لكنه بعد وقت أقلع عن هذا الفعل، وظل على ارتباطه بالعتمة والميل إلى نبذ الضوء وتأمُّلِ الظلام. طرده أستاذ الفلسفة من المحاضرة حين قال له إن الظلام هو نور أيضاً، لكنه أكثر سطوعاً فلا يمكننا الإبصارعبره. بعد قوله هذه العبارة، أحس أنه اكتشف نظريته الخاصة، صار يمضي في الظلام ممعناً في تأمل ضوئه، ليؤكد لذاته أن الظلام هو النور، والحياة هي العدم، وأن الفَقْدَ توحَّد مع المفقود ليس إلا. «كل الأشياء متساوية»، كان يقولها في صوت مرتفع وفي كل الأماكن. حمل في البداية لقب «الفيلسوف الصغير»، ثم لقبوه ب «المجنون». لم يكن يكترث بكل الألقاب، كل ما أراده في الحياة أن يتركوه ينعم في عتمته، لكن هذا لم يحدث، فقد ظلوا يجبرونه على مواجهة الضوء البشع، الذي يفرض حضوره الثقيل عليه، ويدفع عقله للتوتر والغضب. العتمة سكون، فيما النور هو الضجيج الموجع بلا شاهد على مدى أذاه... أجبروه على الامتثال للضوء، الذي أفقده عقله تماماً، نزعوا المجذوب من عتمته، ليصير مثل دودة قز تتقلب على الأرض إلى أن تموت من الجفاف، وها هو الآن يعيش جفافه، يتقلب على الأرض تحت ضوء الشمس الساطع، منتظراً نهايته.