ذات مساء قاحل في قرية صغيرة من أقاصي الدلتا المتطرفة، كانت الضفادع مبتهجة بليلها الصيفي الطويل، تتكاثر في أحواض الماء الراكد، وثمة بُريْصة حمراء تتحرك على حائط بيت قديم، نوافذه المفتوحة يدخل منها وإليها البعوض. على الحائط تسند الأم ظهرها المثقل بالولادات، فيما تمد البريصة الحمراء لسانها لتلتقطه في تلك اللحظة الممتلئة بلزوجة الصيف وأرق امرأة وحيدة، ستتأكد «هند» من أن ما تتصوره أمها عن الزواج والحياة، كان مثيراً للشفقة. تحب أن تحكي لصديقها الجدي عن أمها عن رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وتعرف أنه يحب أن يسمعها وأن يراقب وجهها وهي تحكي بمحبة، وأنه يشفق عليها حين تقول بسأم: - عايزه أمشي بقى من هنا. فيرد عليها بهذا اليقين الذي تكرهه: - يعنى اللي سافروا ارتاحوا؟ - يمكن يلاقوا بختهم في مكان آخر. يهز رأسه وهو يكر شيشته. بصمت يخرج الدخان من أنفه، فتراقب قلقه الذي لا ترى له مبرراً. يقطع الصمت بالسؤال المتكرر. - هل كتبتِ شيئاً؟ تهز رأسها نافية ثم تقول: - يبدو أنني غير قادرة على الكتابة. - اكتبي رحلة الشتاء والصيف. تضحك، تحبه لأنه يصدقها، لكنها تجيبه دائماً بهذه الكلمة - ليس الآن. - أنتِ تذكرينني بيحيى. - من يحيى؟ - كان مثلك بحالات... أنا فاكر لما كان بيحب «نادية لطفي». - كان عامل ازّاي؟ - زيِّك بحالات. - لكن أنا ما بحبّش «نادية لطفي». - لو كان رآكِ، كان أحبك أكثر من «نادية لطفي». - ولو كان؟ ما الذي سيتغير؟ - يمكن كنتِ وجدتِ ما تبحثين عنه،... ولم تسافري. - أنا مش مسافرة. أنا أحاول. فقط أحاول. - ويمكن كنتِ حبِّتيه. - يمكن. - ويمكن كان اختار هو أن يبقى، وأن يؤجل موته قليلاً. - ..... تتركه لتهرب، لأنها تود أن تسافر. وأنها لا تريد أن يذكرها أحد بممكنات لم تجدها في الحياة. تتركه وتسافر، لأنها لا تحب أن ترى تعلقه بها. تتركه وتعبر نحو قارة أخرى من دون كلمة وداع. تريد أن تشعر بتعاسة أن تكون وحيدة ومهملة، وبلا قيمة. تترك خلفها عالماً من المشاعر المضطربة. فما زال بلوتو في مقابلها، وجوبتر في مواجهتها في برج الجدي، برجه. لم تقل له إن برجيّ السعد والنحس معاً في برجه، وإن كلاً منهما يقف في مواجهة الآخر، وأن فلكيْهما سيظلان متواجهين متوازيين إلى الأبد، وأنها تعرف أنه يحبها. يدخل «بلوتو» برج الجدي على مهل، يسكنه لمدة ثلاثة وعشرين عاماً مقبلة، يلف الوجود بخطواته الثقيلة، يدمر عوالم ويعيد بناءها. يلقبونه ب «كوكب النحس»، لأنه يأتي دائماً بمفاجآته ثقيلاً بطيئاً مضنياً كالألم. يقف بمواجهتها مهدداً بأخذ من تحب، وما اعتادت، وما بَنَته من أحلام. تنظر من خلال النافذة الزجاجية، وتراقب تقاطر مطر الغربة الثقيل من تلك البناية الصغيرة، تشعر بضربات قلبها أسرع، وتنتابها في الأحلام هواجس الفقد. تراقب صغيرها ناعساً باستسلام. تحتضنه وتقبل يده، تشعر بهذا الثقل الضاغط على قلبها، وتخاف من تلك الانتفاضة السريعة التي تجعل تقلصات قلبها أعنف. تخاف أن يصحو في موعده، ويحرك يده حول جسدها، ويقول لها: «ماما إنتِ رحتِ فين؟». وصارت تخاف أن تتركه كما تركتها أمها فجأة. يومها حلمت في الليل أنها تقبّلها، وفي الصباح وجه البنت صار دامعاً، وهي تهزها بأسف: «ماما إنتِ رحت فين؟»، فتصبح ضربات قلبها أسرع، تترك ورقة صغيرة على الطاولة إلى جانبه مكتوب عليها: «ماما جايه على طول». وتكتب عليها أرقاماً تليفونية لأشخاص تعرفهم. وتهبط ذاهبة إلى المستشفى القريب. تجلس منتظرة في صف طويل، تتحرك بين آلات التنفس وقياسات الضغط، وضربات القلب. تأملت الطرقات الطويلة المليئة بالأطباء. فتذكرت الآلات المتشابهة وروائح الأدوية والأطعمة والملابس البيض، وحركة المشارط المعدنية في العربات الصغيرة التي صارت تثير فزعها منذ ذلك الحين. حملوها على العربة الترولي التي يحملون عليها المرضي، شبه عارية، ومن جسدها تخرج تلك الأسلاك الدقيقة التي ترسم توتر ضربات قلبها. انكمشت هند. شعرت أنها وحيدة وخائفة. دفعوا بجسدها إلى غرفة المراقبة، صدرها ما زال يوجعها، تندفع بها العربةُ وحيدةً في ممرات المستشفى. الستائر المسدلة بين الغرف، تسقط حولها. تسألها الطبيبة: - هل هناك تاريخ لأمراض القلب في الأسرة؟ ترد باستسلام: - نعم. مات والدي في الأربعين. - هل تتذكرين في أي شهر؟ - أعتقد أنه أكتوبر أو نوفمبر. كان خريفاً والمدارس على الأبواب. - ماذا حدث؟ كان يجلس في البلكون الشرقي يحكي لها قصة سيدنا سليمان، ثم وضع يده على كتفه الأيسر، توقف القلب فجأة. - ليلاً؟ - نعم. في الثامنة مساء. - والوالدة؟ - توفيت أيضاً. سرطان في الثدي، كان صدرها ينز لبناً، أنا أيضاً صدري يوجعني ولا يكف عن فصد اللبن، وصرت أنسى، أنسى كثيراً. هل هذا هو الخرف؟ - هل هناك ما يقلقك هذه الأيام؟ - كان هناك ما يقلق دائماً. لكن هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها بهذا الخفقان، أشعر به في كتفي. أشعر أنني صرت أنسى، وأنا لا أريد أن أنسى... هل تعرفين «هيمنغواي»؟ - نعم. - «هيمنغواي» كان أيضاً ينسى كثيراً، وفقد القدرة على الكتابة. وأنا أريد أن أكتب، هل سأصبح مثله؟ تضحك الطبيبة، تطلب منها أن ترتدي ملابسها، تقول لها: - أعتقد أنك قلقة فحسب. على أية حال سأفحص النتائج، ولو كان هناك ما يستدعي سنتصل بك. تحمل حبات المهدّئ، وتخرج. تسير وحيدة في الشارع المظلم. ضربات قلبها لم تهدأ بعد، تفتح باب البيت لتجده ما زال ناعساً في فراشه. تمزق الورقة التي كتبت عليها: «ماما جايه على طول»... تحاول أن تنام، تحلم بأمها تمسد شعرها، فتبكي في الحلم بضراوة. توقظها أمها وهي ناعسة على حجرها، وتقول لها: «روحي لابْنك»... تبكي أكثر، وتستيقظ لتراقب مزيداً من المطر المتساقط ليلاً على الزجاج، تنساب وتترك هذا الإيقاع المضطرب لقلبها الذي يوجعها. يخرج الطفل من فراشه، ويحيطها بيديه... - ماما إنتِ خرجتِ امبارح؟ يسألها كأنه يحاكمها بصوت قوي، أو ربما بقلق مَن وضع وجوده كله في حضورها، أو بعتاب قاس وحنون... تجيبه بحسم: - أنا كنت هنا. يفرك عينيه من أثر النعاس والقلق ثم يكمل: - أنا حلمت أنك خرجتِ بالليل. يرق صوتها، يصبح أكثر تفهماً ورقّة: - أنا كنت هنا يا حبيبي. - أنا حلمت أني صحوت ولم أجدك. - أنا هنا يا حبيبي. تنخرط في بكاء مر. تكره «بلوتو» والموت والولادة، تكره نفسها، تكره الموت الذي يزورها كثيراً هذه الأيام، ويأخذ مَن تحب وما تحب. تبكي بكاء مرّاً، وينتفض قلبها. يأتي طفلها ويحيط بذراعيه جذعها الذي ينتفض. - ماما فيه إيه؟ - مش عارفه أتنفِس. يسحبها من يدها، ويجلسها على الفراش لترتاح. تبتلع من حبات المهدئ فتبكي أكثر، وتقول له: - كان عندي صديق وحيد، طيب ومسالم. ولد ذات يوم في برج الجدي... النهارده مات. - صاحبك؟ تهز رأسها لتؤكد لنفسها سُنة جديدة من سنن الحياة التي صارت تعرفها، أننا نفقد باستمرار، ونعيش بحثاً عن معنًى قلما نجده. يحتضنها طفلها بين يديه، كأنها طفلته، وهو يواسيها: - ماتزعليش يا حبيبتي... أنا معاكِ. تحتضنه بقوة. يصبح طفلها فجأة هو الصديق الوحيد الذي تبكي على صدره. * من رواية تصدر قريباً تحت عنوان «بروكلين هايتس».