تابع ملايين المشاهدين في أنحاء العالم حفلة افتتاح أولمبياد لندن في تموز (يوليو) الماضي. شريحة كبيرة من هؤلاء، بلا شك، أُعجبت بالعروض الرائعة التي قُدّمت والتي كان هدفها إبراز بعض مما تشتهر به بريطانيا وما تفخر به، وعلى رأسها الثورة الصناعية التي انطلقت منها وغيّرت وجه العالم الحديث، والمطر الذي لا يتوقف والذي يجعل من هذا البلد «جنّة خضراء»، وأيضاً ملكة إنكلترا إليزابيث الثانية و»جاسوسها» الذائع الصيت جيمس بوند (007). لكن حفلة الافتتاح في الملعب الأولمبي شهدت أيضاً عرضاً ربما لم يفهمه كثيرون حول العالم وإن كان لا يقل أهمية، أو شهرة، عمّا سبق. إنه العرض الذي ظهرت فيه مئات الممرضات بلباسهن الأبيض والأزرق وبجانبهن مئات الأطفال يرتدون «البيجاما» ويقفزون على أسرّتهم حاملين شعار: NHS أو خدمة الصحة الوطنية. ربما لم يعنِ رفع شعار خدمة الصحة الوطنية أي شيء لكثيرين من المشاهدين في دول العالم. لكن هذه الخدمة، كما يدلّ على ذلك ضمّها إلى حفلة افتتاح الأولمبياد، تُعتبر بحق في نظر كثيرين من البريطانيين «مفخرة» لا يقل شأنها عن الثورة الصناعية أو حتى الملكة نفسها. نظام خدمة الصحة العامة بدأ عام 1948، أي بعد ثلاث سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية. استحدثته حكومة حزب العمال آنذاك، ويقوم على مبدأ بسيط: «توفير العلاج الطبي مجاناً للجميع». كانت بريطانيا قبل ذلك تعتمد، منذ 1911، على نظام «التأمين الصحي الوطني» الذي يوفّر الرعاية الطبيّة ل 21 مليوناً من البريطانيين، لكنه يترك بقية السكان بحاجة إلى تأمين المال الكافي لرؤية الطبيب والحصول على الرعاية الصحية، بما في ذلك الخضوع لعمليات جراحية تُكلّف مبالغ طائلة وليست في قدرة شريحة واسعة من السكان. واقع الأمر أن الأطباء أنفسهم كانوا رأس الحربة في مقاومة هذا النظام الجديد بسبب خشيتهم من الخسائر المادية التي ستلحق بهم بعدما بات العلاج مجانياً. لكن مع الوقت، تقبّل الأطباء هذه الفكرة وصاروا جزءاً أساسياً من مشروع خدمة الصحة الوطنية ومن النجاح الذي حققه (التحق 95 في المئة من أطباء بريطانيا بخدمة الصحة الوطنية بعد انطلاقها، في حين لم يبق خارجها سوى 5 في المئة من الأطباء الذين يعملون في مستشفيات وعيادات خاصة). وحقق نظام خدمة الصحة العامة إنجازات ضخمة في بريطانيا منذ انطلاقه، وشهد توليد أول «طفل أنابيب» في العالم، وأول حملة تلقيح شاملة ضد شلل الأطفال، وتوفير حبوب منع الحمل مجاناً للنساء (في البداية للمتزوجات فقط)، وتوفير حق الإجهاض لمن تشاء من الحوامل (دون 28 أسبوعاً، قبل تحديدها ب 24 أسبوعاً منذ عام 1990). لكن مثل هذا النظام الذي يوفر الرعاية الطبية المجانية لملايين السكان (أكثر من 60 مليوناً في اليوم) كان يحمل منذ بدايته بوادر مشكلة لا بد أن تتضاعف مع مرور الوقت: التكلفة المادية. وقد ظهرت بوادر هذه الأزمة جلية منذ السنوات الأولى لبدء الرعاية الطبية المجانية، إذ قدّرت الحكومة في العام 1950 أنها ستتكلّف 140 مليون جنيه سنوياً، لكن الكلفة الحقيقة في ذلك العام بلغت 358 مليون جنيه. وقد استمرت هذه الأرقام تتصاعد بصورة خيالية، بحيث باتت موازنة قطاع خدمة الصحة الوطنية تستهلك 106 بلايين جنيه سنوياً (موازنة 2011 - 2012). ويُعتبر قطاع خدمة الصحة الوطنية أكبر مُشغّل في بريطانيا، إذ يعمل فيه 1.7 مليون موظف يهتمون بأكثر من 60 مليون شخص (كل المواطنين والمقيمين يحق لهم الحصول على الرعاية المجانية). ومن بين هؤلاء الموظفين هناك 40 ألف طبيب و410 آلاف ممرض وممرضة و18 ألف موظف في قطاع سيارات الإسعاف و103 آلاف من الموظفين الصحيين في المستشفيات والمستوصفات. ومن أكبر الهيئات في العالم من حيث عدد المنتسبين أكثر من قطاع الصحة البريطاني باستثناء جيش التحرير الشعبي في الصين وسلسلة متاجر «وولمارت» الأميركية وشركة خطوط السكك الحديد في الهند. وبما أن تأمين الخدمة الصحية المجانية لأكثر من 60 مليون شخص يتطلب جزءاً كبيراً من موازنة الدولة البريطانية، فقد تعرّض القطاع إلى إهمال واضح خلال سنوات الشح المالي في السبعينات والثمانينات وتراجع أداؤه تراجعاً كبيراً وصار المرضى يوضعون على «لوائح انتظار» تدوم أحياناً لأكثر من سنتين قبل إخضاعهم للعمليات الجراحية التي يحتاجونها. وحاولت حكومة حزب العمال التي جاءت إلى السلطة عام 1997 في ظلّ انتعاش اقتصادي، أن تضخ الحياة مجدداً في جسد ال «أن أتش أس» بمده ببلايين الجنيهات كي يوظف مزيداً من الأطباء ويشتري أحدث الأجهزة الطبية. ونتيجة ذلك شهد قطاع الخدمات الصحية تحسناً واضحاً في أدائه، قبل أن يعود التراجع مجدداً بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية التي فرضت على الحكومة اللجوء إلى إجراءات تقشف طالت قطاع الصحة كما غيره. وفي ظلّ مثل هذه الأوضاع «التقشفية»، كان لا بد من تسجيل زيادات في الأخطاء التي يرتكبها الأطباء والممرضون الذين يعالجون ثلاثة ملايين مريض أسبوعياً. وبحسب إحصاءات رسمية، أقر قطاع خدمة الصحة العمومية العام الماضي بارتكابه 760 «حادثة خطيرة» بينها أخطاء أدت إلى الوفاة نتيجة تناول أدوية منحها أطباء لمرضى في حين أنها مخصصة لمرضى آخرين. كما أقر جهاز خدمة الصحة العامة بأن 4000 مريض احتاجوا العام الماضي إلى علاج جديد لأن الأطباء ألحقوا بهم إصابات غير التي كانوا يعانون منها، بما في ذلك مرضى شقهم الجراحون من دون تخدير عمومي، وصحا آخرون من عمليات جراحية ليكتشفوا أن الأطباء نسوا في أحشائهم إبراً أو قطع قماش طبية. ومثل هذه الأخطاء دفعت معلقين إلى التساؤل عن مدى صوابية وضع جهاز خدمة الصحة العامة بين «مفاخر» بريطانيا خلال افتتاح الأولمبياد. فقد كتب المعلّق المشهور أندرو غيليغان قائلاً إن «الجزء المخصص تحديداً لخدمة الصحة العامة (في حفلة افتتاح الأولمبياد) يُظهر في شكل يدعو إلى الاستغراب إلى أي حد كانت حفلة الافتتاح محدودة التفكير (أو ضيقة الأفق). فكرة أن خدمة الصحة العامة هي مشعل (فخر) أمام العالم هي، بصراحة، وهم ذاتي وطني. فمعظم دول أوروبا الغربية لديها أنظمة رعاية صحية أفضل مما لدينا، كما أن لديها مواطنين يتمتعون بصحة أفضل من صحتنا». قد يكون ذلك صحيحاً بالتأكيد، لكن تأمين علاج طبي مجاني لكل الناس لا بد من أن يُعتبر فكرة تستحق الافتخار بها ... على رغم نواقصها.