كشفت خريطة للجيش الفرنسي رفع عنها طابع السرية أخيراً عن هول التفجيرات النووية التي قامت بها فرنسا في الصحراء الجزائرية خلال ستينات القرن العشرين. وبينت الخريطة، التي نشرتها صحيفة «لو باريزيان» في 14 شباط (فبراير) 2014، أن تجربة «اليربوع الأزرق» التي أجريت يوم 13 شباط (فبراير) 1960 كانت من القوة بحيث امتدت إشعاعاتها في ظرف 13 يوماً إلى أفريقيا جنوب الصحراء ومعظم شمال أفريقيا وصولاً حتى السواحل الإسبانية. وكانت الخريطة مصنفة ضمن «الأسرار العسكرية» طوال عقود، وأزيلت عنها هذه الصفة في إطار تحقيق جنائي حركه جنود قدامى شاركوا في حملات التجارب النووية الفرنسية في صحراء الجزائر. وأوضحت وثائق رفعت عنها السرية أيضاً أن إشعاعات التجارب لوثت المياه، مما تسبب في انعكاسات سلبية على سكان جنوبالجزائر وصحراء الساحل. وتابعت أن المواد المشعة التي قذفتها التفجيرات، مثل «اليود 131» و«السيزيوم 137»، تمثل خطورة شديدة على السكان الذين لا يزالون يستنشقونها، وأيضاً على الحيوانات كالإبل والماعز التي تعاني من تشوهات، وعلى الأرض التي تحول لونها إلى الأسود وباتت جرداء لا تصلح إلا لإنتاج الأمراض. يقول الخبير والناشط الفرنسي برونو باريو، المختص بمتابعة التجارب النووية: «لا يمكن أحداً أن ينكر اليوم أن هذه المواد المشعة الضارة هي السبب الرئيسي للكثير من الأمراض السرطانية وأمراض القلب والشرايين في المنطقة»، واصفاً سلسلة التفجيرات النووية الفرنسية بتجارب الإبادة، حيث تم استعمال سكان المنطقة كفئران تجارب. وقد روى باريو في كتابه «ضحايا التفجيرات النووية يتناولون الكلمة»، أن فرنسا، على مدار 11 شهراً من 13 شباط (فبراير) إلى 27 كانون الأول (ديسمبر) 1960، استخدمت 42 ألف جزائري في تجاربها النووية في الصحراء الجزائرية، بينهم 150 مجاهداً من سجناء جيش التحرير. وقد وضعتهم في «منطقة الصفر» لحقل التفجيرات، بهدف دراسة المتغيرات الإشعاعية الطارئة عليهم وقياس مدى تأثيرها في أجسادهم. وذكر أن الرئيس الفرنسي آنذاك شارل ديغول سمح لخبراء إسرائيليين بحضور تجربة 13 شباط (فبراير) التي سمّيت «اليربوع الأزرق» تيمناً باللون الأزرق في علمي فرنسا وإسرائيل. وجاء في مذكرات إيف روكار، مدير برنامج الأبحاث الذي أنتج القنبلة الذرية الفرنسية: «فشلت كل الإجراءات التي كنا نأمل تطبيقها في اللحظة صفر في ما يتعلق بقنبلة اليربوع الأزرق». وأضاف أن سحابة مشحونة بعناصر مشعة نتجت من تلك التجربة وصلت إلى النيجر وليبيا وجنوبفرنساوالبرتغال، لأن نشاطها الإشعاعي فاق المعدل ب 100 ألف مرة. وأوضح أنه تم تسجيل تساقط أمطار سوداء في جنوبالبرتغال في 16 شباط (فبراير) 1960، أي بعد ثلاثة أيام من التفجير، وكانت الأمطار تحمل نشاطاً إشعاعياً أكبر 29 مرة من المعدل. «يرابيع» ملونة يؤكد الدكتور عباس عروة، الاختصاصي في الفيزياء الطبية، أن صحراء الجزائر كانت مسرحاً ل 57 تجربة نووية، 17 ساخنة و40 باردة، مضيفاً: «تجربة اليربوع الأزرق فاقت 5 مرات قنبلة هيروشيما، وجاء بعدها اليربوع الأبيض بقوة تفجير 5 كيلوطن، واليربوع الأحمر بقوة 10 كيلوطن، واليربوع الأخضر بقوة 5 كيلوطن». ويحذر الباحث الجزائري عمار منصوري، المختص في الهندسة النووية، من أن تأثير الإشعاعات النووية في هذه المنطقة سيبقى لآلاف السنين ومن المستحيل التخلص منه. وهذا ما أكده تقرير خبراء أعدته الوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 1999 ونشر عام 2005، أوضح أن المناطق المحيطة ب «النقاط الصفر» للتفجيرات ما زالت متضررة من الإشعاعات. وقال منصوري ل «البيئة والتنمية»: «على رغم انقضاء عشرات السنين على تلك التجارب النووية، إلا ّ أن المناطق المحيطة بمواقعها لا تزال مشعة بشكل حاد، ما دفع السلطات لحظر الدخول إليها، خصوصاً بعد تسجيل انتشار أمراض العيون وتراجع الولادات وعقم الأشجار وحالات كارثية أخرى». وفي أول إحصاء طبي جزائري أجري عام 1990 على مستوى مناطق التفجير النووي، ممثلة في منطقة «رقان وما جاورها»، تم تسجيل إصابات بأشكال عدة من الأمراض السرطانية، في النخاع العظمي والجلد والدم والغدة الدرقية في مرحلة الطفولة، وإجهاض عدد كبير من النساء، وارتفاع نسبة الولادات المبكرة، وارتفاع نسبة الوفيات عند الولادة، وتساقط الشعر، وزيادة في نسبة الصم والبكم والمتخلفين ذهنياً. كما سجلت الملاحظات الطبية أمراض العجز الكلوي الناجمة عن التعرض للإشعاع النووي. وكشفت دراسة للدكتور كاظم العبودي، الأستاذ في جامعة وهران غرب الجزائر، تحت عنوان «التجارب النووية الفرنسية وأخطار التلوث الإشعاعي على الصحة والبيئة في المدن القريبة والبعيدة»، أنه تم إحصاء 42 نوعاً من السرطان. وأوضحت أن الإشعاعات النووية تترك انعكاسات خطيرة على الجسم، بتكسير المواد العضوية والخلايا، والتأثير في الجينات الوراثية، ما يسبب التشوهات الخلقية، وهي تصيب الكروموزومات خصوصاً لدى الأطفال والأجنة في الأرحام. ويقول جان لوك سونس، من الجمعية الفرنسية لقدامى التجارب النووية، إن غالبية الجنود الفرنسيين الذين تعرضوا للإشعاعات في صحراء الجزائر عادوا إلى فرنسا مرهقين، شاحبي الوجوه، بأجساد ناحلة، وتوفي كثيرون منهم بين الثلاثين والأربعين من عمرهم بسبب سرطان النخاع العظمي. «لا فلاحة ولا نبات» زارت «البيئة والتنمية» منطقة رقان التي شهدت التفجيرات النووية الفرنسية. يقول الدكتور أوسيدهم مصطفى، الطبيب في مستشفى رقان منذ 22 سنة، إن أقل من 300 مريض كانوا يقصدون المستشفى سنوياً قبل التسعينات، فارتفع العدد في السنوات الأخيرة إلى أكثر من 3500 مريض، مشيراً إلى تسجيل إصابات بالجنون الوراثي والشلل الجزئي وحالات مرضية عجز الأطباء عن تشخيصها. وتوصل بحث أجراه المركز الجزائري للحماية من الإشعاع أخيراً إلى أن مستوى الإشعاع في المنطقة لا يزال يفتك بالبيئة والإنسان، وأن المردود الزراعي يسجل ضعفاً في الإنتاجية مقارنة مع المعدل المتعارف عليه، إضافة إلى انخفاض مريع في الثروة الحيوانية وضعف التنوع البيولوجي واختفاء عدد من الزواحف والطيور المهاجرة والعابرة والمستوطنة. وسجلت دراسات عدة جملة من الأمراض المميتة ساهمت في انخفاض الثروة الحيوانية والزراعية. معروف مثلاً أن منطقة رقان كانت مموناً رئيساً للدول الأوروبية بثمار البندورة (الطماطم). ويقول رئيس الغرفة الفلاحية رفيق دحماني: «كانت رقان في بداية السبعينات تمتاز بمنتوج فلاحي راق، بخاصة الطماطم، تصدرها عبر قافلة جوية من ثلاث طائرات نحو بروكسل وفرنكفورت ومارسيليا، بكمية فاقت في كثير من الأحيان 400 قنطار يومياً. وبلغ متوسط إنتاج الحبوب أيضاً 70 قنطاراً في الهكتار. لكن اليوم لا قناطير ولا فلاحة ولا نبات». قصدت «البيئة والتنمية» المحامية فاطمة بن براهم، التي تتابع بعض قضايا انعكاسات التجارب النووية الفرنسية في الجزائر. فأخرجت من درج مكتبها ملفاً لأحد موكليها وقالت: «انظروا، هذه عينة بسيطة لجريمة التجارب النووية التي لا تزال تؤرق المواطنين الجزائريين اليوم». وكان الأمر يتعلق بصور لجندي جزائري أتم اخيراً خدمته العسكرية في منطقة رقان لفترة 18 شهراً. وكان وزنه قبل وصوله إلى المنطقة 68 كيلوغراماً، فانتفخ حتى بات 100 كيلوغرام «نتيجة الإشعاعات النووية المتسربة إلى هواء المنطقة ومائها». وأضافت أن كثيرين من الذين يقضون الخدمة العسكرية في رقان يتعرضون لتساقط الشعر ولإصابات بالسرطان بعد انتهاء فترة الخدمة. ويتحدث رئيس جمعية ضحايا التجارب النووية حاج عبدالرحمن لكصاصي عن التشوهات الخلقية لدى المواليد، ومنها صغر حجم الجمجمة (ميكروسيفالي) أو تضخمها (ماكروسيفالي)، وأيضاً زوال مظاهر فصل الربيع في المناطق التي خضعت للتجارب النووية، وتراجع عمر الإبل إلى أقل من 20 سنة، في حين أن العمر الطبيعي يراوح بين 30 و50 سنة. ويصف لكصاصي التجارب النووية بالمحرقة البيئية التي ابتلعت عائلات نباتية بأسرها، وأصابت الأشجار بالعقم، ومنها الفستق البري والزيتون الصحراوي، كما لوثت الجيوب المائية. صرخات الإنسان والطبيعة يرى خبراء وقانونيون أن معالجة ملف التفجيرات النووية الفرنسية في صحراء الجزائر تقتصر على تعويض الضحايا، بل تستوجب أيضاً التكفل بالمناطق التي لا تزال ملوثة وتطهيرها. كما أن تحديد قائمة الأمراض المنتشرة في تلك المناطق والآثار المسجلة على البيئة والحيوان أمر ضروري لمعالجة الانعكاسات السلبية لتلك التفجيرات. في هذا الإطار، تعتبر المحامية فاطمة بن براهم أن على فرنسا تعويض الخسائر الصحية والبيئية كافة، لأن التجارب النووية تظل جريمة ضد الإنسانية غير قابلة للتقادم. وأكدت ضرورة ضمان المتابعة الطبية لضحايا الإشعاعات النووية، من خلال تأمين فرنسا هياكل صحية متخصصة تهتم بهذه المتابعة، من التشخيص إلى التكفل الملائم المعتمد في الحالات الشبيهة في مناطق بولينيزيا واليابان. هذا فضلاً عن تعويض الضحايا الجزائريين مادياً، ووضع نظام مراقبة للمواقع النووية على غرار ما أنجز في مناطق أخرى من العالم، وتدريب مختصين جزائريين في مجال إزالة الإشعاعات، وتطهير مواقع التجارب النووية. وقالت: «ينبغي على فرنسا أن تساعدنا في إزالة النفايات الإشعاعية التي تركها الجيش الفرنسي وأن تدعم برامج علاج الضحايا». وتابعت أن فرنسا، بعد 54 سنة، لم تعترف بأي ضحية لتجاربها النووية في صحراء الجزائر، ولا بانتهاكها البيئة. وعلى رغم صدور قانون التعويض الفرنسي «موران»، إلا أنه لا يعني الضحايا الجزائريين ولا الأضرار البيئية التي تسببت فيها هذه التجارب. فالملفات ال32 التي أودعها ضحايا جزائريون للحصول على تعويضات قوبلت بالرفض من اللجنة المختصة التي شكلت بموجب قانون موران، بحجة أن الأمراض المعروضة فيها لا تدخل في إطار هذا القانون. * ينشر بالتزامن مع مجلة «البيئة والتنمية» عدد أيلول - تشرين الأول (سبتمبر - أكتوبر) 2014