«عراقي وأفتخر!» خطها أحدهم على جدار عتيق في العاصمة الأردنية عمّان. قرأتها عابراً، وتخيّلت الصرير الذي أحدثه احتكاك الرأس المدبب بطلاء الحائط، كم هي درجة إحباطه وغضبه حتى يكرس الوقت والجهد لخدش جدار أصم بكلمات لا تغني ولا تسمن من جوع. عجيبة هي غريزة الفخر عندنا نحن العرب، وكم سهلٌ أن تستثار. تمنيت لو أني شاهدته وهو يحفر كلماته، أو أني سألته عن أيّ عراق يتحدث؟ وما تراه سر فخره به؟ أغلب الظن أنّه فتى غض، سمع العبارة في مكان ما وأخذ يردّدها، من دون أن يتدبّر أن العراق بحدوده التي نعرفها الآن، هو محض اختراع بريطاني أبصر النور في العقد الثاني من القرن المنصرم. نعم، الأرض كانت هناك منذ الأزل، وكذلك الإنسان والحضارات، لكنها كانت أقوام ودويلات متصارعة لا تكاد نيران الحروب بينها تنطفئ حتى تعود لتستعر، فكانت الغلبة لبابل على أشور حيناً، ولأشور على بابل حيناً آخر، والهزيمة لهما معاً على يد غازٍ أجنبي في أحيان كثيرة. العراق، الذي وصم الحجاجُ بن يوسف الثقفي أهلَه بالشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق في القرن الهجري الأول، ليس عراق القرن الحادي والعشرين الميلادي، ببغداده وموصله وكركوكه وأربيله، رغم أن تاريخنا المعاصر ليس بالضرورة أفضل من سابقه، فقد دشّنت دولتنا عصرها الأول بذبح آلاف الآشوريين في الشمال، ثم امتد الاضطهاد العرقي ليشمل غيرهم من الأقليات، الذين طردوا من دورهم وأراضيهم لذنب لم يقترفوه. عراقنا المعاصر لم يوفّر حتى مؤسّسيه من الهاشميين، فانقلب عليهم، ولم يراع فيهم لا ذمة ولا حرمة نساء. ليس في عراقنا مكوّن واحد لم يضطهد: القوميون، الشيوعيون، الماسونيون، الإسلاميون، الأكراد، التركمان، اليزيديون، كلهم اضطهدوا، وكلهم سفكت دماؤهم. في الحقيقة قد يكون ذلك هو ما أبقانا مجتمعين طوال عقود، حتى إذا ما سقط آخر طغاتنا انقلب بعضنا على بعض وعمل فيه قتلاً وخطفاً وتعذيباً. في روايتها المثيرة للجدل «لقيطة إسطنبول»، التي تناولت فيها المذابح التي ارتكبتها الدولة العثمانية في آخر عهدها ضد مواطنيها الأرمن، والتي أوصلت مؤلِّفتها أليف شافاك إلى المحاكم بتهمة الإساءة لبني جلدتها، تتكشّف الحقائق في الصفحات الأخيرة لندرك أنّ اللقيطة ليست سوى ثمرة اغتصاب خالها لوالدتها، شقيقته الصغرى. صدمت وشعرت بالاشمئزاز وكدت أرمي الكتاب جانباً، ثم فكّرت: قد تكون شافاك أرادت القول برمزية منفرة أن اضطهاد الأمم لأفرادها أشبه بفعل سفاح، يغتصب الوطن فيه ذاته. المعنى ذاته وجدته عند مشاهدة الفيلم الكندي «الاحتراق» للمخرج دنيس فلينوف، المقتبس عن نص مسرحي باللغة الفرنسية للمؤلف اللبناني الأصل وجدي معوّض. الأحداث تبدأ في بلد عربي لا يسمّيه الفيلم صراحة، لكننا لا نلبث أن ندرك أنه لبنان إبّان الحرب الأهلية. الشخصية المحورية (نوال) تتعرض لاغتصاب منظّم في زنزانتها يثمر توأمين تدرك بعد سنوات طويلة أن والدهما ومغتصبها ليس سوى طفلها الذي انتزع منها رضيعاً... انكشاف الحقيقة يصيب نوال في مقتل ويزلزل كيان أبنائها الثلاثة، ويذكّرنا بأنّ الظلم يورث ظلماً، والكراهية لا تزهر محبة أو تسامحاً. ماضينا ليس استثناء في مسيرة البشرية، مجازرنا ليست وحدها التي لطّخت صفحات التاريخ. نحن كسوانا من الشعوب، لسنا أسوأ ولا أفضل، فلا جدوى إذاً من اللطم والعويل، كما أنّ الفخر فعل أحمق وفكر أجوف، كذلك هو استمتاع بعضنا بجلد الذات محض هروب من الواقع لا يستهويني شخصياً. تعالوا عوضاً عن ذلك، نعيد قراءة تاريخنا بسلبياته وإيجابياته، بدلاً من إضاعة الوقت والمال على مناقشات ومسابقات هزيلة لاختيار علم جديد أو نشيد وطني، تعالوا نتحاور ونتدبّر، أنبقى معاً أم نفترق؟ كمعظم العراقيين، كان مجرد التفكير بالتقسيم يصيبني بالغثيان، لكنني اليوم أقول، بعد كل ما حدث ولا يزال يحدث، لو كان في تقسيم العراق حقن لدماء الأبرياء فليكن... حتى يتمخّض نزاعنا الحالي عن وطن واحد، أو ربما أوطان، تعالوا نتطّهر من أدران الماضي، تعالوا نعتذر بنبل وترفّع عن كل الأخطاء، ولكل الضحايا. تعالوا نخطّها في ضمائرنا قبل الجدران: نحن عراقيون، ونعتذر!