ترى ما الذي فتن الكتاب والموسيقيين، منذ عصر النهضة الايطالي، وحتى القرن العشرين، في شخصية ملكة بابل سميراميس، حتى جعلوا منها بطلة الكثير من الأعمال المسرحية والاوبرالية؟ وسميراميس التي قدّمها هؤلاء على هذا النحو هل بقي لها، في نهاية الأمر، أية علاقة بسميراميس الحقيقية التاريخية التي عاشت فعلاً، وحكمت فعلاً، ويقول لنا التاريخ ان بابل عرفت في زمنها ازدهاراً كبيراً؟ إذا كان من الصعب معرفة الجواب اليقين عن السؤال الأول، فإن الإجابة عن السؤال الثاني كفيلة بأن تعطي المفاتيح لمحاولة الاجابة عن الأول: فالحقيقة أن سميراميس الأدب والموسيقى تبدو في نهاية الأمر بعيدة كل البعد عما يمكن للتاريخ ان يحكيه لنا بصدد صاحبة الجنائن المعلقة. فإذا كان واحد من الأسباب التي حرّكت قرائح ومخيلات المبدعين من حول سميراميس كونها كانت أولى نساء التاريخ بالمعنى الذي يمكن «أن نفهمه» من ذلك (القوة العاطفية المشبوبة، محاولة السيطرة، سلوك دروب المكر، الندّية مع الرجال، في استئناف للفعل الذي كانت أمنا حواء نفسها شرعت به حين سيطرت على آدم عبر اغوائه ونقلته من نعيم الفردوس الى الواقع الدنيوي)، من المؤكد ان الأسطورة المتراكمة التي خلقت سميراميس من جديد، بعيدة تماماً من حقيقتها التاريخية لتبدو أشبه باختصار لصور المرأة الكثيرة وقد تراكمت في مخيّلات الذكور، من دون نسيان جعلها في نهاية الأمر تنال عقابها (على فعلتها؟) بل بالأحرى على ما هي كائنته، طالما ان الأسطورة لا تجعل سميراميس استثناء، حالاً خاصة، بل تجعلها رامزة الى المرأة ككل. فهل علينا أن نتجاوز هذا كثيراً للعثور على ما فتن المبدعين في تلك الشخصية؟ وهل علينا ان نغوص في مقارنات تاريخية/ فنية حتى «نكتشف» ما تبقّى من سميراميس الحقيقية تحت قناع سميراميس الأسطورة؟ مهما يكن من الأمر، علينا ان نلاحظ ايضاً ان سميراميس عبرت الآداب والفنون تحت أقنعة أخرى وبأسماء أخرى أيضاً. ألم تكن هي، أيضاً، أم هاملت على سبيل المثال لا الحصر؟ وفي هذا المعنى أفلا يمكننا الحديث عن كون مرونة الشخصية وقدرتها على ارتداء كل الثياب والأقنعة، أمرين أساسيين لجعلها كبش محرقة يعبّر التعاطي معها عن نظرة الرجل الى المرأة باعتبارها أساس الشرور؟ لقد قدّمت سميراميس، فنياً وأدبياً، بوصفها الشرّ المطلق، ولم يشذ عن هذه القاعدة حتى مبدعون رجال عرفوا بعدم عدائهم المطلق للمرأة، مثل فولتير وروسيني: الأول في تراجيديا كتبها باكراً خلال حياته، والثاني في أوبرا هي الأشهر بين أعماله، واقتبست أصلاً من تراجيديا فولتير، من طريق نص كتبه غايتانو روسّي. صحيح أن أوبرا روسيني هذه لم تكن الأولى المخصصة لسميراميس، سبقه الى ذلك كثيرون مثل فرانشيسكو ساكراتي، ومارك انطونيو تشيستي، وحتى فيفالدي (الذي قدّم عمله للمرة الأولى في مانتوفا عام 1732) وصولاً الى ابن القرن العشرين فلوران شميت الذي كتب حول «حكاية» سميراميس مغناة لم تنل حظها من الشهرة. غير ان عمل روسيني يظل الأفضل، موسيقياً على الأقل، وهو الوحيد - تقريباً - الذي لا يزال حيّاً ويقدّم، ومن أشهر مقدميه خلال النصف الثاني من القرن العشرين، المغنية الرائعة مونتسيرا كاباليه. تحكي أوبرا روسيني التي تتألف من فصلين، وتعرف بالإيطالية باسم «سميراميدي»، الحكاية المتخيلة نفسها التي تحكيها بقية الأعمال المشابهة، حتى وان كانت حبكتها أكثر بساطة من حبكة تلك الأعمال، ذلك ان روسيني لم يشأ اثقال عمله بالحكايات الجانبية. كانت غايته التركيز على شخصية سميراميس واعطاء الفرصة لنفسه لكي يركز على العمل الموسيقي اكثر من تركيزه على الابعاد التراجيدية المسرحية. وهكذا نجدنا هنا في معبد بعل في بابل حيث يطالعنا الكاهن اوروي وهو يرجو الآلهة الانتقام لمقتل الملك نينو. وفي الوقت نفسه يكون على أرملة الملك، سيراميس، ان تختار من يخلف الزوج القتيل على العرش، من بين الكثير من المتطلّعين الى ذلك، والذين يعرفون ان وصولهم الى العرش معناه في الوقت نفسه الاقتران بالأميرة الحسناء، آزيما، ابنة الملك القتيل من زوجته سميراميس. ومن بين الطامحين هناك آرزاتشي، قائد العسكر وآشور قائد الحرس وايدرينو ملك الهند. لكن آزيما، كما سنعرف، تميل في هواها الى قائد العسكر، وهو الشخص نفسه الذي تحبه امها سميراميس. وهذه الأخيرة، حين يتنبأ لها العراف بأن السماء تعدها بالسلام والسعادة والزواج من جديد، تبدو على يقين من ان اشارة السماء معناها انها سوف تتزوج هي من آرزاتشي بعدما تمضي فترة الحداد على زوجها. وهكذا تعلن سميراميس أمام ضريح زوجها الراحل انها ستزوج ابنتها من ادرينو، بينما ستتزوج هي من آرزاتشي. وهنا يحدث ما يقلب مخططات الملكة كلها: تندلع العاصفة وينفتح القبر ليخرج منه شبح الملك نينو معلناً ان آرزاتشي لن يصبح ملكاً إلا بعدما يقدم ضحية في ضريح أبيه، في تلك الليلة. وفيما سميراميس جالسة في جناحها مع آشور قائد الحرس يتذكران قتلهما المشترك للملك، يقوم الكاهن أوروي في المعبد بإخبار آرزاتشي حقيقة لم يكن هذا الأخير يعرف عنها شيئاً: حقيقة هويته. فالحال أن آرزاتشي ليس سوى ابن سميراميس ونينو، الابن الذي حاول القائد آشور قتله بالسم خوفاً من أن يطالب لنفسه حين يكبر بعرش يريد آشور الحصول عليه شراكة مع الزوجة الخائنة سميراميس. والذي حدث هو ان نينو قبل موته، وإذ اكتشف حقيقة المؤامرة، ارسل الى اعوان له رسالة شرح فيها كل ما حدث، عاهداً اليهم بالأمير الشاب الذي يجب ان يربى لكي ينتقم لأبيه يوماً. وهكذا ترعرع الأمير الشاب بعيداً من بابل، حتى شب عن الطوق فأرسله حاميه الى معبد بعل محمّلاً اياه صندوقاً فيه تاج وسيف ورسالة من أبيه. وها هو الآن قد عاد الى بابل في الوقت نفسه الذي كانت أمه تستعد للاقتران بآشور. وحين يصل وتمكّنه مآثره التي يبديها من تسنم المنصب العسكري الكبير، تميل سميراميس، من دون ان تعرف من هو، الى القبول به زوجاً لابنتها من دون ان تشك ولو للحظة انه يمكن ان يكون ابنها. وهكذا، بعد ذلك حين يظهر شبح الملك المقتول، يتولى الكاهن كشف الحقيقة لآرزاتشي معلناً اياه ملكاً على بابل. ويبقى الانتقام: يستعد آرزاتشي للنزول الى قلب الضريح، لكن آشور يكون قد سبقه الى هناك وقد خطّط لقتله. وإذ تعرف سميراميس الحقيقة تنزل بدورها الى الضريح بغية حماية ابنها. وهناك إذ ينقضّ آرزاتشي على آشور راغباً قتله، يصطدم بأمه فيقتلها سيفه المشرع معتقداً، في الظلام انها آشور. وإذ يكتشف خطأه ويحاول قتل نفسه عقاباً لما اقترفه، يتدخّل الكاهن هنا، فيما الشعب في الخارج يتظاهر معلناً ان آرزاتشي هو الآن ملك البلاد، بينما يقبض الحرس على الخائن آشور لإعدامه. أوبرا «سميراميس» لروسيني قدّمت للمرة الأولى في البندقية في عام 1823، وسط مناخ كان الناس يهرعون الى مشاهدة كل ما له علاقة بالشرق البعيد وحكاياته المعقدة. ومع هذا لم تحقق هذه الأوبرا، أول الأمر، النجاح الذي كان مؤلفها يتمناه لها... غير انه ما إن مرت السنوات، وحتى بعدما استخدم روسيني الحانها ليقدم بها عملاً آخر له، عادت الأوبرا ونجحت وصارت، في كل مرة تقدم تلقى اقبالاً كبيراً. وكان روسيني حين كتبها في الحادية والثلاثين من عمره. ومع هذا كانت أعمال سابقة له قد حققت شهرته الكبيرة، ومن أبرزها، طبعاً «حلاق اشبيليا» و «سندريلا» و «قوروش في بابل» و «سيدة البحيرة» و «ويليام تل» وخصوصاً «الايطالية في الجزائر» التي تلامس، كما حال «سميراميس» و «قوروش في بابل» و «ممر البحر الأحمر» عالم الشرق والأساطير القديمة فيه. وإذا كان من الصعب ذكر أعمال جاكومو روسيني (1791 - 1868) كلها، فيمكن القول انه كان الأغزر بين مجايليه، ويعتبر ثاني أكبر مؤلف للأوبرا في ايطاليا بعد فيردي. [email protected]