المشهد الثقافيُّ العراقي يخسرُ ليل العاصمة، ما عدا محاولات متفرقة لاستعادته وتذكيرِ الجمهور بطقوس لم تكن المدينةُ تُعرَفُ بغيرها. ويحاول مثقفون الرجوعَ إلى أماسيهم وأنشطتهم في ساعات متأخرة، في حين يتحول المساء البغدادي إلى توقيتٍ لمدينة استهلاكية؛ كلُّ ما فيها من حركة يأتي من صخب الأسواق والمتبضعين، والقاعات والمطاعم. وتزدحم أجندة العاصمة الثقافيّة بإعلانات عن «أصابيح» متنوعة، وبدأ الجمهور، وهو قليل عموماً، يتقبل حضور لقاءات وندوات عن الشعر والمسرح والتشكيل، وفنون أخرى، منذ الصباح. ولا يبدو هذا الطقسُ مُنسجِماً مع تقاليد بغداد قبل عقود. واضطر الوضعُ الأمني مؤسسات إلى هجر الأماسي، مُنذ اندلاع الاقتتال الطائفي، وصعودِ الميليشيات إلى المشهد الأمني في البلاد عامي 2005 و2006، لكن كثيرين يرون أن الأوضاع تغيّرت، وأصْبَحَ متاحاً للعراقيين عيشُ يومٍ أطول، بعدما كانت أهمُ مرافق العاصمة تُغلقُ أبوابَها مُنتصفَ الظهيرة، وتتحولُ إلى مدينةِ أشباح. مع التحسن النسبي للأوضاع بدأت «بغداد الليل» تعودُ إلى الواجهة، لكن ملامحَ استهلاكية تطغى على المدينة، بينما يكون المثقفون قد أنهوا يومهم ونشاطهم مُبكراً. وللعراقيين تقاليد ليلية عريقة، فيما يكون النهار مشغولاً بالأعمال والوظائف. هذه الصورة تبدلت منذ العام 2003. وتحتاج الأنشطةُ المسائية إلى جمهورٍ له مزاج خاص كي تكسب جدوى إقامتها، بيد أن غياب الثقة والشعور بالقلق الدائم يُشكلان عاملين حاسمين في مهمة تحويل اليوم الثقافي إلى المساء. يقول الشاعر إبراهيم الخياط، الناطق باسم الاتحاد، أن انشطته «تشهد حضوراً متميزاً، حتى في الصباح، بخاصة الأربعاء من كلِّ أسبوع، وقد بدأت تزحف إلى توقيت متأخر، ولكن لا يمكن الحديث الآن عن الأماسي». ويرى الخياط، أن «مساعدة الجمهور على استعادة الثقة ضرورية لتحويل التوقيت، ونحن نعمل على ذلك». ثمة مؤسسات أخرى التزمت بتقليعة «الأصابيح»، ومنها غاليريات مشهورة كقاعة «حوار» و«أكد» التي تتوسط شارع أبي نواس، وهناك أيضاً أصابيح لجمعية الثَّقافة للجميع، ومؤسسة «مدارات»، و«بيت المدى» وجماعتا «بيت الشعر» و«مرسى». وفي غالبية تلك الأنشطة يمعن مبدعون عراقيون في الحديث عن منجزهم وأعمالهم، في حين لا يبدو انسجامهم مع جلسة تحت ضوء الشمس، بعد سنوات من اعتياد ألوان الليل. ويبدو أن المثقفين العراقيين تركوا الليل لغيرهم، إذ تكتظ المسارح بجمهور يبحث عما يسمى العروض التجارية. وشهدت قاعات «المسرح الوطني» و«سميراميس» و«النجاح» عروضاً مسرحية مادتها الرئيسة، بحسب نقاد ومتابعين، السخرية عبر نص هابط، همها جذب الجمهور برقصٍ غير مُحترف تُقدمه موديلات حُشرت في العرض من دون مناسبة. لكنّ مثقفين شباباً حاولوا مراراً كسر القاعدة الجديدة لتوقيت العمل الثقافي، ف «بيت الشعر»، مثلاً، نظم مسابقة بالتعاون مع الأممالمتحدة في العراق، واحتفل بنصوص شعراء عراقيين، وصمم أن تنطلق الانشطة ليلاً قرب دجلة عند منتدى المسرح، وفي مقهى يُشغلُ بفنانين وأدباء وسط الكرادة. يقول الشاعر والصحافي علي السومري أن مثقفين عراقيين يقاتلون هاجس فقدان بغداد ليلها. ويجد أن «الأصابيح موضة ابتدعتها المؤسسة الرسمية الكسولة، التي تتذرع بالاضطرابات الأمنية». وشهدت بغداد انشطة متفرقة أُقيمت في وقت متقدّم عند نصبي شهريار وشهرزاد، وحدائق أبي نواس، وميدان كهرمانة، والسومري الذي نشط، مع آخرين، في عدد منها يقول ل «الحياة» :»كنا نجتهد لإحداث ثقب في الجدار وقد نكون نجحنا». هذه المحاولات تواجه تقاليد سياسية واجتماعية جديدة تحول دون النجاح وتكرس حياة ثقافية كأنها وظيفة رسمية في الحكومة تخلد إلى الراحة في المساء.