يعيش اللبنانيون، منذ عقود، أجواء سياسية ملبدة بغيوم الانقسامات السياسية والتشنجات الطائفية والمذهبية، ازدادت حدة وضراوة باغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط (فبراير) 2005. أدى الاغتيال إلى مواجهات قاسية بين القوى السياسية اللبنانية التي تموضعت في فريقين رئيسين، نتيجة اتهام الفريق الأول المتمثل ب «قوى 14 آذار» النظام السوري وبعض أتباعه في لبنان بالتورط في الاغتيال مستنداً في اتهامه إلى تسلطهم على الحياة السياسية والإدارات العامة والمؤسّسات الأمنية إبان وصايته على لبنان، بينما برأ الفريق الثاني المتمثل ب «قوى 8 آذار» النظام السوري من الاغتيال وشكره على الخدمات التي قدمها له خلال حقبة وصايته. وظهر بعد ذلك إلى العلن خلافهما المستحكم على ملفات وطنية كبيرة منها دور لبنان في الصراع العربي - الإسرائيلي ومن بعض القضايا الإقليمية، إذ يرى الفريق الأول عدم التورط في هذه القضايا حماية لأمن لبنان واستقراره وبنيته التحتية، بينما يرى الفريق الثاني لزوم انغماس لبنان في هذه القضايا كونه جزءاً من محور «المقاومة والممانعة». والخلاف الآخر دور سلاح «حزب الله» المثير للهواجس والخوف لدى غالبية اللبنانيين من استخدامه في قضايا إقليمية لا علاقة للبنان بها ولا تمس أمنه، ومن تداعيات تحوله إلى الداخل وهيمنته على الحياة السياسية وأعمال الحكومة وقرار الدولة ومؤسّساتها، وإقامة مربعات أمنية يحظر على الدولة دخولها أو يسمح لها فقط بالدخول الموقت والمبرمج، وتنتشر فيها تجارة المخدرات وعمليات الخطف للانتقام أو لطلب الفدية وفرض الخوة على المحال التجارية وممارسة الابتزاز والتشبيح على الناس ولجوء هاربين من وجه العدالة يتصدون للقوى الأمنية والعسكرية بالرصاص والنار. وأدى غياب الدولة عن هذه المناطق وترعرع المجرمين والمخلين بالأمن فيها إلى استقواء آخرين في مناطق أخرى على الدولة، يمارسون نشاطات تسيء إلى هيبة الدولة وحرية المواطنين وأمنهم. وتقضّ هذه الحوادث مضاجع اللبنانيين، خصوصاً في ظل غياب ملموس لدوائر السلطة، على رغم أن العناصر الأمنية تدفع حياتها في سبيل استعادة هيبة الدولة. ومن الملفات الخلافية بين اللبنانيين الموقف من الثورة السورية التي يدعمها فريق منهم بالإعلام والمال وتسهيل مرور السلاح إلى الداخل السوري واستقبال اللاجئين السوريين والاهتمام بإيوائهم وإطعامهم وعلاجهم، وفريق آخر يساند النظام السوري بالإعلام ويمده بالمقاتلين وخطف مواطنين سوريين في لبنان مناوئين للنظام وإرهاب ناشطين في المعارضة السورية. ويحاول النظام السوري من خلال تسخين الوضع العسكري على حدود لبنان الشمالية والشرقية وتكرار القصف على القرى الآمنة الضغط على الحكومة اللبنانية من أجل التجاوب مع لائحة مطالب أمنية وسياسية واقتصادية قدمت لها، والانتقام من فريق لبناني يناصر الثورة ضده. وفشلت محاولة النظام السوري إثارة الفتنة الطائفية والمذهبية وزعزعة الاستقرار الأمني في لبنان باغتيال رجال دين وسياسة من خلال مخطط إرهابي خطير كان ينوي تنفيذه الوزير السابق ميشال سماحة الوثيق الصلة بقمة هرمه قبل اعتقاله بالجرم المشهود. كان رهان النظام السوري في حال نجاح هذا المخطط الجهنمي توجيه أصابع الاتهام إلى الحركات الأصولية الإسلامية، ما يدفعه إلى المجاهرة بأنه النظام المثالي لمكافحة هذه الحركات التي تهدد الاستقرار الإقليمي والدولي، ومنع تناميها. وأدى كشف المخطط الإرهابي في نقل الفتنة إلى لبنان، إلى فشل النظام السوري في إعادة تعويم نفسه وإنقاذ ما تبقى من وجوده المتهالك. وفي ظل الأجواء المتشنجة، عقدت طاولة الحوار الوطني في 20 أيلول (سبتمبر) الماضي اجتماعاً برئاسة رئيس الجمهورية ميشال سليمان من أجل مناقشة الاستراتيجية الدفاعية أو بصورة أدق تحديد مصير سلاح «حزب الله» الذي يعتبره معظم اللبنانيين سلاحاً خارجاً عن إطار الشرعية، بينما يصفه الحزب بسلاح المقاومة. وأدى تصور سليمان للاستراتيجية الدفاعية التي على لبنان اعتمادها من أجل حمايته من الاعتداءات الإسرائيلية، إلى نقاش سياسي بأبعاد مختلفة ومتباينة بشأن مضمونه وإمكانات تطبيقه على أرض الواقع في ظل الظروف الحالية، إذ ترى «قوى 14 آذار» أن وضع المقاومة بإمرة الجيش اللبناني وتأكيد مرجعية الدولة والتمسك باتفاقية الهدنة العامة الموقعة مع إسرائيل في 23/3/1949 والالتزام بقرار مجلس الأمن الرقم 1701 وتعزيز القدرة العسكرية للجيش وتزويده بمعدات وأسلحة ثقيلة تتطابق مع طروحاتها، لكنها ترى أن الاعتراف بالمقاومة كقوة عسكرية مرادفة للجيش في الدفاع عن لبنان ووضع سلاحها في إطار كيان خاص بها، يتناقض مع الدستور، كون الجيش اللبناني هو المولج حصراً باستعمال عناصر القوة لدعمه في تنفيذ خططه العسكرية. في المقابل، ترى «قوى 8 آذار» أن ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» التي ترفضها «قوى 14 آذار» يجب أن تكون أساس أي استراتيجية دفاعية، وترفض وضع المقاومة بإمرة الجيش بذريعة أن ذلك يؤدي إلى تقييد تحركاتها وعملياتها في مواجهة أي عدوان إسرائيلي محتمل، بينما يعرف القاصي والداني أن سلاح «حزب الله» تحول بصورة كاملة بعد القرار 1701 إلى سلاح إقليمي قراره في طهران. وفي اعتقادي واعتقاد كثيرين من المراقبين أن طاولة الحوار لن تتوصل إلى استراتيجية دفاعية يكون فيها قرار الحرب والسلم في يد الدولة اللبنانية وإمرة المقاومة في يد الجيش اللبناني، قبل سقوط النظام السوري وخفوت النفوذ الإيراني في المنطقة وتحول «حزب الله» من المحور الإقليمي إلى رحاب الوطن اللبناني وتفاعله مع كل مكوناته. وتصب القوى السياسية الآن، مجمل اهتماماتها في إعداد قانون انتخاب جديد، تجري على أساسه الانتخابات النيابية في منتصف السنة المقبلة، إذ يسعى كل فريق إلى تشريع قانون يؤمّن له الحصول على أكثرية نيابية، يستطيع من خلالها السيطرة على مقاليد الحكم لأربع سنوات، والتحكم بانتخابات رئاسة الجمهورية عام 2014، كون مجلس النواب هو الذي ينتخب رئيس الجمهورية. واللافت تنافس القوى المسيحية على مشاريع قوانين تعزز الانكماش الطائفي، في مخالفة واضحة ل «اتفاق الطائف»، بدلاً من الانصهار الوطني بذريعة إعادة الحقوق الضائعة إلى المسيحيين، وعدم إعلان القوى الإسلامية مواقفها الحقيقية قبل تبلور الأجواء. وأدت هذه القضايا الخلافية إلى أزمات مستعصية واصطفافات طائفية ومذهبية متواجهة، أثرت في شكل كبير في وحدة النسيج الوطني كادت تؤدي في بعض المراحل إلى فتنة سنّية - شيعية، نظراً إلى الثقل السنّي في الفريق الأول والثقل الشيعي في الفريق الثاني. وفيما السياسيون يتلهون بخلافاتهم، تطفو على السطح معاناة اللبنانيين وهمومهم المعيشية، خصوصاً بعد إقرار الحكومة زيادات كبيرة على رواتب المسؤولين الرسميين وموظفي القطاع العام، ستؤدي في حال إقرارها في مجلس النواب إلى تداعيات خطرة على الخزينة العاجزة وعلى الاقتصاد الواقع في ركود وعلى المواطن من الضرائب الجديدة. وفي هذا المجال لا بد من الإشارة إلى أن العالم يتجه إلى التقشف وخفض الرواتب، بينما حكومة لبنان تهرب إلى أمام من مواجهة مسؤولياتها في الإصلاح الهيكلي وفرض الأمن والاستقرار وحماية الاقتصاد، بزيادة الرواتب والتضخم. * كاتب لبناني