أبو نواس لا يحتاج الى تعريف. خصومه الغُفّل في حاجة الى ذلك. هذا الشاعر الجزل، مجدد القريض الكلاسيكي، الساخر من الورع الفارغ، الكاره للموضوعات الاجتماعية بمجونه الماكر، وخلاعته السافرة وخمرياته المترعة. كرّمه البغداديون بإطلاق اسمه على احد الطف شوارع المدينة. شارع ابي نواس (او ابو نواس بالعامية، فالبغداديون لا يكسرون اسمه كرهاً ببلاغة النحو، او حباً لهذا المتمرد)، يمتد على طول الضفة الشرقية لنهر دجلة، من الباب الشرقي عند جسر الجمهورية، وانتهاء بالكرادة، عند الجسر المعلق، حيث «عيون المها بين الرصافة والجسر». اليوم، ابو نواس الشارع، وابو نواس الشاعر والرمز، في ابتلاء. فالسلطات المعنية بأمور بغداد قررت ان تزيل ملامحه. فليس يكفيها تحول بغداد بأسرها الى ما يشبه مكبّ نفايات كبير، فهي تريد ان تضيف الى قبحها المتراكم قبحاً. شارع ابي نواس قطعة من الذاكرة البغدادية، في الخمسينات، كان شاطئ دجلة الطيني – الرملي، ملاذ الاسر البغدادية، تستأجر منه قطعة ارض (بضعة امتار) لتقيم عليه غرفة من حصير البردى المضفور، لتبترد في النهارات القائظة، وتنعم بالسباحة (للذكور)، ويغرس بعضها بذور الخيار واللوبياء، لتتلذذ ب «خيار الماء»، لحلاوته وطراوته المذهلة. الفتيان اللاهون يتعلمون السباحة. يكترون عجلة مطاط، او كرب النخيل، ليعينهم على الطفو وسط الامواه، الغادرة احياناً. ومن الستينات من القرن الماضي، تحولت الضفاف الى مقاه ذكورية، او مختلطة، يمتزج فيها رمل الشاطئ بأرجل الكراسي المعدنية التي تغوص فيه، حتى يقارب الجالس ملامسة الاديم الرطب. مقابل شاطئ المقاهي، عبر الشارع، ثمة الحانات الليلية، الممتدة من اقصى الشارع الى اقصاه، حانات تمتد الى منتصف الليل، لتلفظ المنتشين بمائها الحارق، الى الأزقة المجاورة، حيث كان ابو نواس يمشي وهو ينوء بأعباء القلب: «حامل الهوى تعب». شارع ابي نواس جزء من الذاكرة البغدادية، ابتلي بما ابتليت به من جلافة القروي بعد القروي، المنتصب حاكماً بأمره. في عهد صدام حسين، تحول الشارع الى خطر امني. فالضفة الشرقية من دجلة التي يقيم فيها تواجه القصر الجمهوري، وكر الذئاب المتسيدة، والهدف الاول لأي عدو. صار ابو نواس متآمراً انقلابياً، او جاراً لا يؤتمن. يوم زرت بغداد بعد فراق اثنتين وعشرين سنة، لم اتبيّن دجلة. ماؤه الفضي كان يميل الى الاخضرار، ما يشبه مياه بركة آسنة، تغمرها الآشنات والضفادع. ويفصل المارة عن النهر سياج من الحديد المشبك، يليه شارع ترابي شق على عجل (لمرور دوريات الامن والحمايات الرئاسية)، ثم يلي الشارع ضفة النهر، ثم يلي ضفة النهر حقل نباتات شوكية بعلو قامة. صادفت صياد سمك لم يبق في فمه غير ناب واحد، وهو يرتدي «دشداشة» (جلابية عند الاخوة المصريين)، ويتمنطق بحزام جلدي مهترئ، ويحتذي نعالاً مطاطاً، رائحة السمك تفوح منه، وبؤس السنين حفر اخاديده في هذا الوجه. لكنه كان باسماً. واومأ بيده الى ثغرة في ستار الحديد المشبك قطعت بمقص فولاذي، لتسمح بالمرور. قال: «رجع لنا شطّنا». والشط هو المفردة البغدادية للنهر. لقد حرم هذا الصياد، كما حرم البغداديون، متعة الوصول الى ضفة دجلة، الغادر بالمقاييس الامنية لحكم خائف يحسب ظله غولاً. وقتها تردد ان بعض الأيديولوجيين الاقحاح خرجوا بفتوى تدعو الى تغيير اسم الشارع، ذلك ان ابا نواس، كان «فارسياً»، مثلما فعل قبلهم الصينيون يوم شطبوا اعمال شكسبير باعتباره «بورجوازيا». لا ادري من أنقذ ابا نواس من التحريم الداهم. واليوم يحصل ما يشبه ذلك، ولكن ليس لدواع عرقية متطرفة، بل لأسباب تتعلق بقيم الورع الزائف وقيم التبتل المراوع، الماكر كالثعلب، الذي كان ابو نواس هاجيه الاكبر. لعل هناك من يفكر ان ابا نواس هو المجون او الكفر بعينه. ولحكام بغداد سوابق في هذا: دهم النوادي بحجة الافتقار الى التراخيص (الحبيسة في ادراج البلديات)، وصولاً الى الاعتداء على شارع المعرفة: المتنبي. ولعل هناك من يفكر في تغيير خريطة بغداد، محو ذاكرتها التاريخية. فهذه الذاكرة، في عرف القروي، لا قيمة لها. ترك القرويون، في العهد السابق، شارع الرشيد يتفكك. وقرويو العهد الجديد لا يكتفون بترك المدينة تتفسخ، بل يعمدون، في حمية بالغة، الى التعجيل بالتفسخ. ثمة هنا علاقة تضاد مكينة بين القرية والمدينة. فالقروي المهاجر، الهارب من حرمانات الارياف (وهي حرمانات مؤلمة بكل المقاييس طبعاً) يستقر في احياء الصفيح والفقر، حتى ينهض جيل ثان من وسطه، ليحمل قيم المدينة، ويرتقي بحق في مدارجها بل يضيف اليها حيوية جديدة لقاء ما تعطيه من فرص المعرفة. واختلال هذه المعادلة يفضي الى نوع من تراجيديا اجتماعية. فأسمال المدينة، ان بقيت لسبب او لآخر، تحول المدينة الى أسمال. سألني صديق، عبر رسائل من بعيد (ايام الحصار المعروف): «لماذا يكره حكامنا بغداد الى هذه الدرجة؟» فالمدينة، بعد هذا وذاك، موئل يحتضن المهاجر، حضرياً كان أم قروياً. وفضاؤها الاجتماعي هو، كما ينبغي ان يكون، فضاء التنوع، والتعدد الثقافي. بين دفتيها يجد المرء الدرويش الصوفي، والاديب الحداثي، الفلاح الامي المكتوي بنار الحرمان، واستاذ الجامعة العالم، الحرفي العصامي، ورجل الدولة بوقاره المزيف، بائع الباقلاء، وتاجر الذهب، رجل الدين الملتحي القابع في صومعة دور العبادة، والاعلامي الساهر في النوادي، الصبايا المحجبات، او فتيات الايمو بسراويل الجينز الضيقة. هذا الفضاء المتنوع بثقافاته وقيمه ينغلق رويداً رويداً بجرة قلم من مسؤول ابله، يخيط قماشة المدينة على مقاسه! هكذا قرر صدام حسين، ذات يوم، اعادة الحجاب للمرأة، وغلق دور السينما. ولو كان هذا الديكتاتور حياً، لأخذ يباري رجال الدولة الحاليين، بإرغام العراقيين على الصوم طوال العام، وإطلاق لحى كل الرجال، وغلق الباب على الاناث حتى لا يخرجن من بيوت الزوج الا في تابوت، ولحّول بغداد كلها الى قرية صغيرة تحيا بالعرف القروي وبه تموت. ثمة حاجة لتحريك عجلات الاحتجاج على «امانة بغداد» المثقلة بمخلوقات اقل ما يقال فيها انها غبية، بلهاء.