ندر ان أثار مؤرخ في العالم العربي ضجة وإشكالات وتمرداً على مفاهيم سائدة مثلما أثاره المؤرخ اللبناني كمال الصليبي. في اكثر من مجال، اخضع التاريخ الى مبضع العلم وصرامته، فأتى بأبحاث مثيرة لا تزال موضع جدل بين موافق ومعارض. من ابحاثه عن لبنان التي اجلى فيها الغبار عن الأيديولوجيات الخرافية المتحكمة بالتاريخ اللبناني منذ فخر الدين الى تأسيس دولة لبنان الكبير، مروراً بكتابات المؤرخيبن اللبنانين الذين كانوا مؤرخي طوائف. وفي موضوع التراث الديني، فجر «قنابل» بدأت من كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب» الى كتاب «البحث عن يسوع»، فشكّك بالتاريخ الديني السائد في اليهودية والمسيحية على السواء. في حوار أجراه معه الكاتب صقر ابو فخر وصدر في كتاب «الهرطوقي الكبير، حوار مع كمال الصليبي» ( المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، يلخص الصليبي بعضاً من نظرياته المثيرة للجدل، ويضيء على مسائل لم يتطرق اليها سابقا بشكل مفصل. تجرّأ الصليبي على خلخلة المفاهيم السائدة عن الرواية الدينية التقليدية كما وردت في التوراة والأناجيل وسيرة المسيح فيها. اشتغل على الكلمات الخاصة بأسماء المدن والمناطق في الجزيرة العربية، وتعرّف جغرافياً على هذه المناطق، فدفعته هذه المعرفة الى التشكيك بالتاريخ المعروف عن هذه المناطق، وقرر إعادة النظر في تاريخ بني اسرائيل والتاريخ التوراتي، وحتى التاريخ المسيحي، بل «في كل شيء، وفي كل شيء قيل عن الأشوريين وعن البابليين وعن المصريين القدامى، لأن كل ماقيل هو «لوفكة» (زعبرة)، أي تزوير وقلب للحقائق... من هنا بدأنا التركيز على التوراة. وفجأة لمع في ذهني أمر محدد هو : لماذا الإسلام يعرف جيداً التوراة؟ أنا أعلم ان المسيحيين يعرفون التوراة. لكنهم، في الأساس، يعتبرونها عهداً قديماً وانتهى امره مع مجيء المسيح. اما الاسلام فيعرف التوراة جيداً لأن العرب يعرفون بني اسرائيل، ولأن الجميع عاشوا في اماكن متجاورة». في السجال مع الصليبي عن أسباب استعصاء الشعوب العربية على التقدم والتطور نحو الديمقراطية على غرار ما عرفه الغرب، والاصرار على الاقامة في الاستبداد، يرى مؤرخنا ان طراز الغرب ليس بالضرورة هو الطراز الذي يجب الاحتذاء به، وهو ليس معياراً للتقدم والتحضر، خصوصا اذا ما استعدنا التاريخ المتوحش الذي شهده الغرب ودفع اثماناً باهظة قبل ان يحقق الحداثة. اما مشكلتنا نحن العرب، على ما يرى الصليبي فتدور حول اننا «نحن العرب عشنا مع الغربيين ونعيش مع غيرهم، ولكن لدينا بغض غير صحيح للنفس. كنا ننتقد انفسنا اكثر من اللازم، وليس بالضرورة حيث يجب الانتقاد». يتجلى ذلك في لبنان والعالم العربي حيث نعتقد اننا اسوأ ما خلقته الحياة السياسية. هكذا نظلم انفسنا، «لاننا عندما نقارن انفسنا بالدول التي نتمثل بها عادة في ميدان التقدم والحريات الديمقراطية، نجدهم زعراناً عشر مرات اكثر منا. وأكاذيبهم كبيرة جداً بينما اكاذيبنا صغيرة ومسكينة. هم أضروا شعوب العالم مئات المرات، بل آلاف المرات اكثر مما اضر حكامنا بها. ان ظلّهم على العالم ثقيل». خرافات لبنان لعل الجديد الذي أتى به الصليبي حول التاريخ اللبناني خصوصا في القرون الاخيرة، كان الأكثر صدماً لفكر لبناني عماده الأساس جملة اساطير وخرافات تركبت عليها ايديولوجيا «القومية اللبنانية». لا يصنف نفسه في خانة الانتماء الى هذه القومية، فالامر بالنسبة اليه لا يعدو مجرد شعور،او انتماء الى لبنان، وهذا الشعور ولّد لديه الخوف على لبنان خصوصا منذ اندلاع الحرب الاهلية وتحوّل لبنان الى ساحة صراعات محلية – اقليمية- دولية. يرفض مقولات عدد من المؤرخين اللبنانيين خصوصا الموارنة منهم، ويشدد على ان تاريخ العائلات والطوائف خضع للتزوير، بل صورة لبنان العامة بشموليتها كانت ميداناً لهذا التزوير. ويشير الى ان الفريق الذي اراد انشاء لبنان بدأ يخطط لمشروعه منذ سنة 1880 تقريبا. «فكرة لبنان بدأت في رأس مجموعة من المسيحيين الكاثوليك، بمن فيهم الموارنة، في لبنان وسورية. ومن غرائب الأمور ان آباء لبنان ولدوا في الشام وعاشوا في الشام. لكن كان هناك ما يجمعهم، اي مسيحيتهم، وانهم من الأثرياء الذين يطلق عليهم مصطلح «برجوازية». هؤلاء اقاموا مشاريع تجارية، وخططوا لإقامة بلد اسمه لبنان بالحدود المعروفة، وهي حدود اخذوها من خريطة رسمها الفرنسيون سنة 1861. الخريطة كانت خريطة الطوائف». ومنذ العام 1900 بدأ المؤرخون الموارنة يصوغون تاريخاً للبنان يعود الى ستة آلاف عام الى الوراء، بل الى بدايات التاريخ. ثم جاءت قصة انتماء لبنان الى الفينيقية، وهو امر لا اساس له في التاريخ. يرفض الصليبي حكاية فخرالدين الاول، الذي يراه بعض المؤرخين مؤسس لبنان الحديث، فيما لم يكن هذا الشخص سوى ملتزم جباية الضرائب في سنجقي بيروت وصيدا. وكانت الدولة العثمانية توسع له حجم الالتزامات، الى ان «كبر رأسه وقام بالعصيان» فاعتقلته الدولة العثمانية فحوكم واعدم. اما بالنسبة الى فخر الدين الثاني «فهو مجرد تسمية اطلقت حين زوّر المؤرخون هذا التاريخ وجعلوه تاريخا لدولة بني معن. والحقيقة ان لا فخر الدين ولا امراء هذه البلاد، بل المقدمون هم المقصودون. وعندما كان احد المقدمين يعصي الدولة، او لا يقوم بواجباته، تنحّيه الدولة وتأتي بمقدم آخر. وكانت تحصر اختيارها بعائلة او بعائلتين او بثلاث عائلات». كثيرة هي القضايا التي أثارها الصليبي في حواره، من السيرة الذاتية الى بعض اخبار العائلات الاقطاعية، الى ما عرف بالانتفاضات خصوصا انتفاضة طانيوس شاهين والاسطورة غير الصحيحة التي ركّبت حول الرجل. وفي كل ما تطرق اليه الحوار اقر الصليبي بأمر مهم في تجربته التاريخية بحيث يختتم بالقول :»كل ما فكرت فيه، وتوصلت الى نتائج في شأنه، قلته. لم اخبئ شيئا. وهذا أمر اراحني نفسياً. وانا لم اخاطب في مؤلفاتي، المؤرخ، بل خاطبت الانسان العادي».