قد تصيب الأحداث العربية المنغمس في متابعة تطوراتها التي تتأرجح بين التباشير والنذر، بين الخوف والحلم، بين الارتقاء والانكفاء.. الرغبة في القطع قليلا.. وبالنسبة للكاتب قد لا يجد أفضل من قامة يتتبع سيرتها وومضات من حكمتها.. وقيمة أي سيرة ذاتية فيما تقدمه من رحيق العمر وخلاصة التجربة. وفيما كنت أقرأ في الفصل الاخير من مذكرات كمال صليبي "طائر عل سنديانة".. إذا بوسائل الاعلام تنقل خبر وفاة الطائر الحكيم. ها قد رحل الطائر العجوز. عدت مرة اخرى وقبل ان استكمل الفصل الاخير استعيد ملامح هذا الطائر. ألقى الموت بظلاله وهو يُسدل الستار على المشهد الأخير.. ثمة حضور مختلف لقراءتين، قراءة الموت وقراءة الحياة.. وكأن الموت يجبرك على توقف آخر تستعيد في حضوره المهيب ملامح الطريق ورؤى تستدرها قسرا من فم حكيم يصر أن يصغي اكثر مما يتكلم، واذا تكلم أوجز بلا ادعاء او تنصل او مبالغة.. طائر حكيم مسن حط على سنديانة كلما رأى أكثر تكلم أقل كلما تكلم أقل سمع أكثر ترك كمال صليبي تراثا علميا كبيرا، ومنهجا في دراساته التاريخية لافت ومختلف. ربما نتذكر أكثر اطروحاته المثيرة للجدل "التوراة جاءت من جزيرة العرب". هذا الطائر الذي كاد أن يفشل في أول تجربة يرفرف فيه جناحاه في مشهد الصعود، فإذا به يعود استاذا للتاريخ في الجامعة الامريكيةببيروت وهو لم يتجاوز بعد سن الخامسة والعشرين. كمال الصليبي كان متحفظا على الشعارات العروبية الثورية التي جعلت لبنان في عين العاصفة وهزت تكوينه الطائفي الهش.. الذي كان يجب ان يتم التعامل معه بالإصلاح والتغيير لا بالرفض والانعزالية أو التهميش. لسنوات طويلة انشغل الصليبي بتاريخ لبنان. إلا أن شهرته امتدت عندما طبق منهجه في القراءة التاريخية لتطال بلاد الشام والجزيرة العربية. الطائر الحكيم لم يتحرج ان يعترف بمسألتين مهمتين، فعندما صدر كتابه تاريخ لبنان الحديث هاجمه زكي النقاش الذي بادر لتأليف كتاب آخر ليثبت كيف أن الكتاب يكرس التزوير المسيحي للتاريخ اللبناني. يقول كمال: "لقد استفدت من كل ما كتب زكي النقاش، فقد كان نافعا لي، فهو يبحث عن الزلات فجعلني اجتنبها، وألوذ اكثر فأكثر بالموضوعية. والواقع اني كنت أتفق معه بأن المسيحيين زوروا تاريخ لبنان، وقد سمع هذا مني مرارا..". وإذا كان النقد جعل الصليبي يلوذ بالموضوعية أكثر ويعترف مرارا بأن المسيحيين زوروا تاريخ لبنان، فهو أيضا يشير إلى أن مقولات مثل: أن لبنان الحديث هو امتداد تاريخي لفينيقيا او انه الجبل الاشم الذي لم تتمكن منه الفتوحات العربية والاسلامية من اخضاعه.. لا تمت للحقيقة بصلة، بل انه يؤكد وهو الذي كتب اطروحته للدكتوراه تحت اشراف "برنارد لويس" عن تاريخ لبنان في العصور الوسطى بدراسة مدونات الموارنة، أن تاريخ لبنان بدأ منذ الفتح الاسلامي الأول. التاريخ الفينيقي للبنان أكذوبة كبرى يروج لها ويلوذ بها جزء من لبنان المسيحي الانعزالي لحماية نفسه أكثر من استجابته لحقائق التاريخ والجغرافيا. نشأ كمال صليبي في بيئة مسيحية بروتستانتية صارمة، وتحت تأثير أب متشدد في وعيه ومفاهيمه، فهو مسيحي بروتستانتي مناصر للامبراطورية الانجليزية. كتب كمال لأبيه اثناء اقامته الأولى في لندن لإعداد اطروحته للدكتوراه في عام 1950 يشكو من سياسة التقنين الشديد للطعام في مواجهة آثار الحرب العالمية الثانية التي لم تكن بريطانيا تعافت منها بعد. فجاءه الجواب: "الانجليز خاضوا حربا ضارية دامت ست سنوات للدفاع عن أرضهم وقيمهم التي هي قيمنا. ودفعوا ثمن هذه الحرب غاليا. وهم يشاركونك ما لديهم من طعام فعليك ان تكون قنوعا به". الخصوصية اللبنانية ظلت جاثمة على عقل وصدر كمال الصليبي، كان يرى لبنان مثل الساعة السويسرية التي عندما اصابها الخلل لم يتم اصلاحها، وانما رمي بها عرض الحائط فتحطمت. إلا انه لم يكن انعزاليا، بل كان اصلاحيا بالمفهوم الذي يرى فيه أن لبنان يتغير وعلى المسيحيين ان يتغيروا، دون أن يعني فقدان خصوصية لبنان الحر التعددي. الخامة الانسانية لكمال الصليبي جعلته يوسع دائرة علاقته حتى اصبحت اكثر وثوقا واقترابا من أطراف لا علاقه لها بالانتماء المسيحي الشرقي الذي كان يهجس به والده. واعتقد ان كمال صليبي أخلص لمهمتين في حياته: لمهمة علمية بالغة الحساسية، ولمحيطه الاجتماعي والثقافي. فالعروض التي قدمت له للحياة في امريكا او بريطانيا استاذا وباحثا يحظى بالتقدير، لم تغريه بالهروب من جحيم الحرب الاهلية، فهو كان يرى نفسه في بيروت لا سواها. لقد ظل مصرا على البقاء في بيروتالغربية ورأس بيروت تحديدا حتى في خضم الحرب الاهلية، وقد رفض الانتقال لبيروتالشرقية لأنه رافض للموقف السياسي الذي تمثله عناصر الانعزال المسيحي، وفضل الانتقال أخيرا لعمان. وفي مذكرات الطبيب منير شماعة (إقلاع وهبوط.. سيرة طبيب من رأس بيروت)، وهو طبيب أخصائي بارع، حقق نجاحا لافتا، وجدت توصيفا أكثر دقة عن اجواء الحرب الاهلية في لبنان من زاوية مختلفة عن قراءة معظم السياسيين والكُتاب. ويبدو ان منير شماعة من مجايلي كمال الصليبي. والذي لفت انتباهي بين القراءتين ان هناك ثلاثة أشياء تجمع بين طائر السنديانة وطبيب رأس بيروت. أولهما ان كلاهما مسيحي عاش في رأس بيروت، وكانت الغالبية العظمى من سكانه من المسلمين، وهذا أثرى علاقتهما وصداقاتهما في هذه الدائرة، ولم يكن أي منهما يحمل رؤية انعزالية رغم كل إغراءات ومخاوف الفرز على الهوية التي صاحبت الحرب الاهلية اللبنانية. رفض منير شماعة مغادرة بيروت حتى في عز الحرب الاهلية، ولم يجد في كل العروض التي قدمت له من اوروبا وامريكا ما يدفعه للرحيل عن بيروت وهو لم يكن مجرد طبيب عادي، وكذلك فعل كمال صليبي إلا في السنوات الاخيرة من حياته عندما رحل واستوطن عمان واصبح مديرا للمعهد الملكي للدراسات الدينية. الامر الاخر ان كلاهما خريج الجامعة الامريكية، وبالتالي تبدو الرواية التاريخية لتلك المرحلة مليئة بالصور التي تجعل من تاريخ هذه الجامعة تاريخيا لا ينفصل بحال عن تاريخ بيروت منذ أربعينات من القرن الماضي. الجامعة الامريكية مختبر كبير اختمرت فيها الفكرة الاولى لكثير من التنظيمات القومية واليسارية والانعزالية ايضا. الامر الثالث ان كلاهما كان مخلصا لمهنته، وعلاقته بالعروبة لم تكن مأزومة او رهينة حسابات الطائفة. وإذا كان الصليبي يهجس بالتأثر المسيحي عندما كان مستشارا للرابطة اللبنانية في الجامعة.. حتى تخلى عنها عندما بدأ توجهها يأخذ لبنان إلى منحى خطير، إلا انه ابن بيئته الاولى ايضا التي رسخت هذا الوعي لكن لم تقوى على اقتلاع ايمانه بالعروبة. فهو يقول: انني اعتبر نفسي عربيا، الا انني كنت ضد عروبة كانت تستهدف لبنان كوطن حر له ميزاته الخاصة بالعالم العربي. وبينما اقرأ عن ذلك الصراع الذي اوقعته عروبة ثورية استبدادية في مواجهة مارونية انعزالية مأزومة، تذكرت الرسالة التي كتبها عبدالله القصيمي إلى الاستاذ أنسي الحاج ونشرت في ملحق جريدة النهار.. وهو الذي تمنى فيها للبنان مزيدا من الحضارة ونقصا في العروبة. لا أعتقد بأن القصيمي، كان معاديا للعروبة كواقع تاريخي وثقافي في لبنان.. ولا أظن انه يريد انفصال لبنان عن عروبته او معاداتها.. انما كانت مخاوفة من الظلال الثقيلة التي ألقتها الرؤى القومية الوحدوية وصيغة النظام العربي الشمولي التي كانت تجد حضورا وتفاعلا كبيرا في لبنان في ستينيات القرن الماضي، والتي كانت تريد ان تهضم لبنان بكل صياغته التعددية تحت جناح عروبة استبدادية لم تنجُ من آثارها الدول العربية التي ألقت بظلالها عليها. كمال الصليبي كان متحفظا على الشعارات العروبية الثورية لنظم الاستبداد، والتي جعلت لبنان في عين العاصفة وهزت تكوينه الطائفي الهش.. الذي كان يجب ان يتم التعامل معه بالإصلاح والتغيير لا بالرفض والانعزالية من طرف او التهميش من طرف آخر، وهو واقعي جدا عندما يستعيد تلك الحكمة " لكي تحافظ على الواقع عليك ان تتغير قليلا".